التاريخ: أيار ١٩, ٢٠١٣
المصدر: جريدة الحياة
المُهجّرون من السياسة - عمر قدور
كان من افتراضات الثورة الأساسية أنها ستعيد إلى المجتمع السوري السياسة التي صودرت منه طوال نصف قرن، ولم يكن أكثر التوقعات تشاؤماً يتنبأ بالوحشية المفرطة التي سيقابل بها النظام مجتمعَ الثورة. ومع أن التعبير الأخير، مجتمع الثورة، يشي بالقسمة الحادة ضمن المجتمع السوري ككل، إلا أنه بدوره صار تعبيراً مجازياً، وكغيره من التوصيفات العمومية يوحي بالانسجام حيث لا انسجام فعلياً، ويدلل أولاً على وجود مجتمع حيث لم يبقَ من ذلك الاجتماع سوى ذكريات يحملها النازحون إلى الشتات، وقد لا يتسنى للبـاقين استرجاعها وهم تحت جحيم القصف المستمر.

ثمة ما يقارب الثمانية ملايين نازح في الداخل والخارج، هذا ما تشير إليه الإحصاءات غير الدقيقة، لأن إحصاءات أخرى تشير إلى تدمير ما يزيد عن أربعة ملايين بيت، أي تشريد ما يقارب أربعة ملايين أسرة. هذه ليست مأساة إنسانية فقط على صعيد الإغاثة وتأمين الملاجئ، هي أيضاً مشكلة جوهرية على الصعيد السياسي وإن بدت موقتة. فالنظام نجح في تفريغ المناطق المحررة من نسبة كبيرة من سكانها، عبر استهداف تلك المناطق بالقصف المستمر عن بعد، ونجح تالياً في تفريغ التحرير من أهم معانيه، وهو إحساس البشر بحريتهم على أرضهم وفي بيوتهم وضمن مجالهم الاجتماعي الاعتيادي.

لقد قيل الكثير عن ملء فراغ السلطة، وعن الجهات القادرة على ذلك أو المقبولة داخلياً ودولياً، لكن أية إدارة في المناطق المحررة تعاني عوزاً أساسياً مردّه عدم قدرتها على تحقيق الأمن والأمان، وكذلك عدم قدرتها على جذب المهجرين وإعادتهم إلى مناطقهم. في مدينة حلب مثلاً، تشكل المجلس المحلي نفسه في تصويت اقتصر على مجموعة صغيرة، وضمن اقتراع جرى في الأراضي التركية المجاورة! وبصرف النظر عن اعتماد تسميات غير قابلة للتعميم على المستوى الوطني، الهيئات الشرعية مثلاً، فإن غالبية الهيئات المتشكلة لم تقدّم نموذجاً واعداً، ولا تعدو كونها سلطة أمر واقع باستثناء المناطق المحررة التي لم تشهد قصفاً ونزوحاً مستمرين، ما أتاح للأهالي إدارتها في شكل تعاوني وبلا انتظام هرمي صارم، الأمر الذي حدث نسبياً في مدن صغيرة كيبرود والزبداني والتل.

أفلح النظام أولاً في تهجير الكوادر المثقفة، والتي ساهمت في البداية في شكل حثيث في تكوين ملامح الثورة، بعد أن اعتقل قسماً لا يُستهان به من قادة التنسيقيات وأقرانهم غير المنتظمين في إطار حركي، ومع الوقت فقد هؤلاء حيوية تفاعلهم مع الثورة بحكم عدم تماسهم مع ما يحدث على الأرض فعلاً. وينبغي الاعتراف، مع الأسف، بأن الكثير من الحماسة التي يحتفظون بها وهم في الشتات لم يعد مفيداً في الداخل، ولم تعد تلك الغنائيات مطابقة للواقع، فصارت غالبيتهم الساحقة خارج السياسة حقاً. الوضع بالطبع أسوأ من جهة نازحي المخيمات الذين تتحكم الإعانات الدولية بحياتهم وعيشهم اليومي، وهو ليس أفضل حالاً بكثير لدى نازحي الداخل الذين باتوا يبحثون عن محض أمانهم في مناطق ومدن سورية هادئة غير مرحبة دائماً بوجودهم.

أما على الصعيد الاقتصادي فيذهب الكثير من التحليلات عن دور الطبقة الاقتصادية العليا ليصبح خارج التداول. في مدينة حلب التي كان البعض يصنّفها العاصمة الاقتصادية للبلاد، قام النظام بضرب البنية التحتية تماماً، وأكملت بعض الكتائب المسلحة المهمةَ بالسيطرة على المناطق الصناعية في المدينة والاستيلاء على المعامل الموجودة بعدّها غنائم حرب، أو ابتزاز أصحابها مالياً بذريعة حمايتها من السرقة. كما هو معتاد في هذه الحالات استبق الكثير من التجار والصناعيين تطور الأحداث فهربوا بأموالهم إلى الخارج، ونأوا بأنفسهم عن الاصطفاف الحاد مع النظام أو الثورة، إلا أن ما تبقى من ممتلكات تُقدّر بعشرات المليارات من الدولارات كان كفيلاً باستمالة البعض منهم لمصلحة الثوار بعد تحرير القسم الأكبر من المدينة لو لم تسبقهم إليها تلك العصابات التي تقاتل النظام باليد اليسرى لتنال غنائمها فوراً باليمنى، والتي مع الأسف تستغل «الجيش الحر» كتسمية بقيت غائمة وفضفاضة حتى الآن.

لقد تم تفكيك معامل كبرى وبيعها خارج الحدود، بدءاً من المعامل الحكومية التي لم يدافع عنها أحد بصفتها أملاكاً عامة، وكـــذلك تم الاستيلاء على المخازن الـــحكومية من الحبوب والمواد الغذائية التي بيع بعضها إلى السكان من دون أن يُعرف مصير ثمنها.

في المدينة ذاتها لا يبدو مصير الممتلكات الشخصية أفضل حالاً، فالبيوت التي اضطر أصحابها إلى النزوح تعرضت للسطو، إما على يد أفراد من تلك الكتائب أو بسبب عدم قدرة الأخيرة على حماية الممتلكات الخاصة وهي منهمكة في قتال النظام، وقد فوجئ الكثيرون ممن عادوا إلى تفقد بيوتهم بسرقة حتى الأدوات البسيطة الزهيدة الثمن. وإذا كان شبيحة النظام قد استحدثوا ما سُمّي بأسواق السنّة للممتلكات المنهوبة إثر اقتحامهم المناطق الثائرة، فإن عصابات النهب قد تكفلت بالمهمة في الكثير من المناطق المحررة الخطرة، وهذه الخسائر على بساطتها ليست قليلة الكلفة على المستوى الكلي، وهي أولاً ليست قليلة الكلفة على المستوى المعنوي والوجداني لمجرد أن تحضر المقارنة بين سلوك الشبيحة وسلوك بعض الكتائب المقاتلة. بالطبع، الحديث يدور هنا عن آلاف البيوت، وربما مئات الآلاف، غير المحسوبة ضمن تلك التي تعرضت لدمار شامل أو جزئي.

في أحسن الأحوال التي ينشدها السوريون، وفي حال سقوط النظام في أسرع وقت، فهم سيشرعون أولاً في عدّ خسائرهم التي لا تُحصى، والتي قد لا يقدرون على تعويضها ضمن أمد متوسط. مرة أخرى، لا يتوقف ذلك عند الكلفة الباهظة من الدماء غير المعروفة بدقة حتى الآن، فهناك مناطق مدمرة بأكملها لن يُتاح لأصحابها العودة إليها، وإلى الاجتماع السياسي فيها قبل سنوات، وليس حال المناطق المدمرة جزئياً بأفضل على هذا الصعيد.

طوال عقود، استطاع النظام تهجير السوريين من السياسة وهم في أماكنهم، ولما باتوا قريبين منها قام باقتلاعهم من أماكنهم أو باقتلاع الأماكن نفسها؛ من المرجح ألا تكون العودة إليها ومباشرة السياسة عملية سهلة في الوقت الذي تجرى فيه مطالبتهم بأن يكون اجتماعهم السياسي الوطني على ما يرام.