التاريخ: أيار ١٩, ٢٠١٣
المصدر: جريدة الحياة
في ذكرى النكبة: حروبنا ومقاوماتنا ضد إسرائيل - ماجد كيالي
منذ إقامة إسرائيل ونكبة الفلسطينيين، قبل 65 عاماً، انبنت العدّة المفهومية لمواجهة هذا التحدّي على عقيدة المقاومة العسكرية، حصراً، من دون اعتماد أشكال أخرى، أو حتى الاستناد إليها. لكن إسرائيل هذه، وبعد عشرين عاماً على إقامتها، استطاعت هزيمة جيوش عربية عدة، في غضون أيام، وفوقها احتلت باقي ارض فلسطين، مع هضبة الجولان وشبه جزيرة سيناء.

لم يلتفت أحد إلى هذا الدرس المؤلم في الشكل المناسب، ذلك أن النظام العربي اعتبر الهزيمة مجرّد نكسة، وروّج لفشل إسرائيل في الحرب بدلالة إخفاقها في إسقاط بعض الأنظمة، وصعّد خطاباته في ما بات يعرف بلاءات الخرطوم الثلاث في آب (أغسطس) 1967، ووجد ضالته بتظهير المقاومة الفلسطينية المسلحة لإشغال الوجدان العربي الموجوع بالهزيمة والمهجوس بالثأر لكرامته.

ولم تنحصر المشكلة في سيادة العقلية العسكريتارية، وإنما في توهّماتنا وتخيّلاتنا عنها، بحيث لم نفطن إلى أن أنظمتنا لم تحارب حقاً عام 1948، إذ إن عدد الجيوش العربية السبعة لم يتجاوز نصف عدد الجماعات اليهودية المسلحة التي انبثقت من مجتمع مستوطنين عددهم 650 ألفاً. كذلك لم ننتبه إلى أن إسرائيل احتلت سيناء مرتين (1956 و1967)، في عهد الرئيس عبدالناصر، وضاعفت مساحتها مرات عدة بعد حرب 1967، وأنها في حرب 1973 لم تتزحزح من هضبة الجولان، وجوّفت معنى المفاجأة في هذه الحرب بعبورها الى شرق القناة، وأن هذه باتت آخر الحروب العربية الإسرائيلية.

بديهي أن ثمة في هذه الحروب تضحيات جمّة وبطولات ملحمية، ولكنها أيضاً تمخّضت عن تأبيد الأنظمة الاستبدادية، حتى ان حافظ الأسد، المسؤول عن ضياع الجولان، حكم وعائلته سورية 45 عاماً، وتحكّم بلبنان قرابة ثلاثة عقود!

بعد الحروب النظامية، جاء دور المقاومات المسلحة. فالمقاومة الفلسطينية، مثلاً، لم تمكث إلا ثلاثة أعوام في الأردن، ثم أخرجت، ولا يعرف أحد حتى الآن، ما معنى تلك التجربة العسكرية، وما جدواها، وعلى أية حسابات عسكرية اشتغلت.

أما حصّة لبنان من المقاومة الفلسطينية (واللبنانية بعدها)، فكانت الأبهظ كلفة، والأكثر ألماً ومرارة، للبنانيين وللاجئين الفلسطينيين، من دون أن تضعف اسرائيل. وفي المحصلة، تم اخراج المقاومة من لبنان (1982) بعد غزو اسرائيل، ومع ذلك روّجت هذه لانتصارها، حتى حين صعدت قياداتها ومقاتلوها الى السفن نحو تونس والجزائر واليمن، وعلى رغم ما حصل للاجئين الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا.

مع ذلك، فقصّة الفلسطيني والمقاومة المسلحة لم تنته، فتكرّرت في الضفة وغزة، بعد إقامة السلطة، إن في الانتفاضة الثانية (2000 - 2004)، أو عبر حرب الصواريخ من غزة، ما جعل اسرائيل تشنّ حروباً وحشية مدمّرة على الفلسطينيين: 2002 و2003 في الضفة وغزة، و 2008 - 2010 ضد غزة وحدها.

مفهوم أن المسؤولية لا تقع على الفلسطيني العادي والبسيط، المقاتل أو المسالم، الذي بذل ما في وسعه من التضحيات والبطولات، وإنما على «الأبوات» وأرباب السلاح، وأيضاً ارباب الثقافة والفكر، الذين كانوا في كل مرة لا يسمّون الأشياء باسمها، بقدر ما ينمّون الوهم، بترويجهم للهزائم كانتصارات.

هذا حصل مع المقاومة اللبنانية المتمثلة بـ «حزب الله»، على رغم اتسامها بالانضباطية والكفاءة، بالقياس الى الفلسطينيين، إلا أن هذه لم تغير شيئاً في موازين القوى إزاء اسرائيل، على رغم كل البطولات المبذولة بها، فضلاً عن أنها لم تتجاوز الحدود الإسرائيلية. ومعلوم أن معدّل القتلى الإسرائيليين، خلال 18 عاماً، اي منذ تأسيس «حزب الله» الى انسحاب اسرائيل من جنوبي لبنان (عام 2000) لم يتعد 45 جندياً في الشهر (بمجموع قدره 860 جندياً)، فيما معدل القتلى الإسرائيليين إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1993)، كان أكثر من ذلك (حوالى 65 إسرائيلياً)، وبلغ عددهم في الانتفاضة الثانية، التي غلب عليها طابع المقاومة المسلحة والعمليات التفجيرية، حوالى 250 اسرائيلياً، علماً اننا نتحدث عن مقاومة تحت الاحتلال.

والحال ان المقاومة اللبنانية أصيبت بالأمراض ذاتها، إذ بات يُروّج لكل معركة، وآخرها (2006)، باعتبارها انتصاراً وهزيمة لإسرائيل، حتى اشتهرت عبارة مفادها: «لتأخذ اسرائيل انتصاراتنا وتعطينا هزائمها»، وهي تحيل على عبارة مماثلة راجت بعد تدمير إسرائيل لأجزاء كبيرة من غزة في حرب 2008: «إذا كانت هكذا هي الانتصارات، فكم انتصاراً يلزم حتى تُدمر غزة كلها؟!».

في الغضون، وفوق كل الهزائم، نجم عن العقلية العسكريتارية المغلقة شيوع لغة العنف في المجتمعات العربية، وغياب إعمال التفكير والتخطيط في تدبّر أحوالنا. والأهم أن هذه العقلية صرفتنا عن الانشغال بأولويات وحاجات أخرى، مثل التركيز على بناء الدولة، وتكريس فكرة المواطنة، والديموقراطية، والتنمية، والارتقاء بالتعليم. وفوقها فاتنا، في خضم ذلك، أن العسكرة كانت مجرّد باب نفذ منه الاستبداد إلى كل مسامات حياتنا، بحيث نسينا حاجتنا الماسة إلى الحرية والكرامة والعدالة.

هكذا، ربما كان أخطر ما في هذا أن مجتمعاتنا باتت أكثر قابلية للانصياع لنظم استبدادية وفاشية، من طراز نظام «الأسد إلى الأبد»، كما لمقاومات تسلّطية، نخر فيها الفساد، وتماهت مع الاستبداد، وتدين بوجودها للتمويلات الخارجية، فقط لمجرد أنها تلهج باسم فلسطين، ومقاومة إسرائيل، حتى لو كانت من النوع المغرق في الطائفية.

بالنتيجة، ومع الأسف، قوّت حروب كهذه ونمط من المقاومات كهذا إسرائيل، التي باتت بعد 65 عاماً اكثر استقراراً كدولة من دولنا، وأكثر انسجاماً كمجتمع من مجتمعاتنا.

وهذا ليس نعياً ولا ذمّاً للمقاومة، التي ستبقى مشروعة، ضد إسرائيل، وإنما للحروب والمقاومات كما تمثلت في التجربة المتعيّنة، في العقود الماضية، وفي مآلات القوى المحركة لها. وهذا مع التأكيد أن المقاومة لا تقتصر على العمل المسلح، فالفلسطينيون قدموا في انتفاضتهم الشعبية الأولى بالذات النموذج الأفضل لمقاومة تعتمد على شعبها، وتشتغل وفق إمكاناته بعيداً من التوهّمات والشعارات.

ولربما كان من المجدي إمعان النظر في مآلات نظام الاسد، الأثير على جماعات «المقاومة والممانعة»، ومآلات حركتي «فتح» و «حماس» في سلطتي الضفة وغزة، ومآلات «حزب الله» الذي بات يقاتل السوريين، فقط لأنهم باتوا يطلبون الحرية والكرامة.