على امتداد مسيرتي المهنية الطويلة التي درست خلالها تاريخ الشرق الأوسط الحديث، أقمت في جميع دول العالم العربي أو زرتها، باستثناء دولة واحدة هي الجزائر. ولهذا السبب رحبت بكل سرور بالدعوة التي وجهت لي لإلقاء محاضرات خلال رحلة على متن سفينة على طول الشاطئ الجزائري، نظمها قدامى جامعة هارفارد في نيسان (أبريل) الماضي، وشملت زيارات للآثار الرومانية الرائعة في الجزائر، مع مناقشات على متن السفينة حول موضوع الربيع العربي. وكما يحصل عادة بالنسبة إلى أفراد أي مجموعة من السياح، فُرض عليّ مسار محدد –يشمل مدناً تضم مرافئ هي الغزوات، والجزائر العاصمة، وبجاية، وسكيكدة، وعنّابة، والمناطق الواقعة خلف الساحل تماماً–، كما فرض علي فهم ما أمكنني تعلّمه من الحديث مع مرشدينا المحليين. ومع ذلك، يبدو من المهم أن أسجل بعض انطباعاتي عن تلك الدولة الأبية والغنية بالموارد، وإن كانت زياراتها قليلة. إلى جانب أن رئيسها عبد العزيز بوتفليقة مريض، وأصبح يخضع الآن لسيطرة كاملة من قبل فريق محدود من الجنرالات المتقدمين في السن، والذين يعرفون باللغة المحلية باسم "السلطة" Le Pouvoir. وكان من الأهمية بالنسبة إلي كذلك أن الركاب الذين كانوا برفقتي، ومعظمهم من الأميركيين، بالكاد يعرفون أي معلومة عن تاريخ الجزائر أو عن هجمات الجهاديين الأخيرة في منطقة الصحراء، كما أنهم كانوا غير خائفين من أن يصيبهم مكروه أثناء رحلتهم إلى المكان. وحتى بوجود الشرطة المستمر وسيارات أخرى تحمي حافلاتهم، وسط وميض الأضواء ودويّ الصفارات، بدا الأمر أقرب إلى إجراء روتيني وعادي للعبور في زحمة السير، أكثر من كونه إشارة واضحة إلى أن السلطات قررت حمايتهم من خطر هجوم حقيقي، وسط إدراكها بأن أي هجمات جديدة على الأجانب ستتسبب بضرر هائل لعملية إنعاش قطاع السياحة المحلي. وكمنت الأهمية الأساسية للرحلة على متن السفينة في زيارة الآثار الرومانية الكثيرة الممتدة على طول الساحل والهضاب خلفه. وهي آثار غالباً ما تقع في أماكن جميلة، وسط مناظر خلابة، وهي خير شاهد على عبقرية الرومان في إدارة الموارد المائية، بما يشمل إرساء أنظمة مناسبة للاستحمام وصرف المياه، وقد عرفتُ من حفريات الفسطاط في القاهرة القديمة أنها مهارات نقلوها بكل حرّية إلى خلفائهم البيزنطيين ومن بعدهم إلى الحكام المسلمين. ومع ذلك، لم تشهد غالبية تلك الآثار حفريات محترفة على يد أشخاص متحمسين ومحترفين، بل قام بهذه الحفريات هواة من الجيش الفرنسي خلال سنوات استعمار الجزائر. في حين تكاد لا توجد أي أبحاث عن الآثار تحت المياه على طول الساحل، بسبب خوف النظام في مرحلة ما بعد الاستقلال، من إقدام الأجانب على وضع الخرائط ومن التجسس عموماً. وبالتالي، لم تُسجَّل أي محاولة عثور على أنقاض للمراكب الحربية التي تعود إلى قراصنة البربر المشهورين، الذين كانوا ينقضّون على السفن الأجنبية على امتداد الساحل الجزائري، ويهجمون فجأة للاستيلاء على أي سفينة، شاء سوء حظها أن تحطّ رحالها في المكان، بسبب الرياح المتوسطية التي لا يمكن توقعها. أمّا التاريخ الأحدث عهداً في الجزائر، فقد تمّ تناوله في عرض سينمائي على متن السفينة للفيلم الشهير "معركة الجزائر"، وفي استطلاع تاريخي ممتاز أعدّه محاضر آخر، هو سفير أميركي سابق خدم في الجزائر قبل سنوات. وقد برع فعلاً في الشرح الذي وفّره لغياب الاحتجاجات العامة الجدّية عن شوارع الجزائر خلال الربيع العربي، بسبب تقليد قوي من الإضرابات وغيرها من الاحتجاجات، التي يقوّضها نسبياً الخوف من العودة إلى العنف المستشري الذي ساد في الستينيات والتسعينيات من القرن الماضي. وعلى صعيد شخصي أكثر، تكونت لدي أربعة انطباعات، أولها كان من حصيلة الكلام مع بعض الشبان الجزائريين الشبان الذين التقيت بهم، وهي أن الشعب الجزائري هو شعب أبي، لم يكتفِ بإدراك قوة بلاده وثرواتها الهائلة في مجال الزراعة وفي مجالي الغاز والنفط، بل استوعب أيضاً عجز الجزائر في الوقت الراهن عن تطوير ذاتها بالكامل، لأن النفوذ حكر على نخبة صغيرة جداً تضم بمعظمها رجالاً عسكريين محافظين إلى حد كبير. وبالنتيجة، لا يوجد لدى هؤلاء الشباب أي سبب فعلي يدفعهم للاعتقاد بأن حالة البطالة المريعة ستتحسّن، أو أن القسم الأكبر منهم سيملك ما يكفي من المال للزواج أو العثور على مكان للسكن. وليست مفاجأة أن جميعهم تقريباً سجلوا أسماءهم للحصول على تأشيرة دخول إلى كندا ضمن القرعة المشهورة على أمل الفوز. أما الانطباع الثاني، فتكون لدي عن الجمال الآخذ بالتلاشي لمدن الساحل الجزائري، حيث تبدو الأبنية كلها وكأنها بحاجة إلى طبقة جديدة من الدهان. ويعجبني أيضاً حجمها المحدود، مع قلة الابنية الفخمة، باستثناء نصب الشهداء التذكاري العملاق الذي يعود إلى العام 1962، أي مقام الشهيد الذي بُني على إحدى التلال المطلة على الجزائر العاصمة. أما الانطباع الثالث، فهو أن الجزائر هي دولة بوليسية أكثر مما تصوّرت، مع حضور واضح لقوى الأمن في كل مكان، وخوف عام لدى الناس العاديين من قول أي كلام عن حكومة بلادهم. ومع أن أسباب ذلك واضحة –وتشمل الخوف من السلفيين ومن مغبّة انتشار تحركات الجهاديين إلى الصحراء–، من الصعب معرفة الكثير عن التركيبة الغامضة للسلطة اليوم، وهي من الأمور التي تهمني كثيراً على الصعيد الشخصي، بالنظر إلى أن الرئيس المريض بوتفليقة كان أول رئيس عربي يعمد إلى تعديل الدستور ليخوّله الحكم لولاية ثالثة من 2009 إلى 2014. ويؤدي هذا كله إلى انطباعي الرابع والأخير، وهو أنه عند إلقاء نظرة إلى الخلف، قد نشعر بأننا زرنا الجزائر في مرحلة بالغة الأهمية من تاريخها، بنتيجة عودة بوتفليقة إلى سرير المستشفى في باريس بعد إصابته بما وصفته الصحافة المحلية بأنه جلطة صغيرة أخرى. وبالنظر إلى تقدّمه في السن وإلى الغموض المحيط بصحته، بدا لي أن احتمالات خوضه معركة رئاسية رابعة باتت ضئيلة، وأنه سرعان ما سيبدأ البحث عن خلف أصغر سناً له، هذا إن لم يكن قد بدأ. وتراودني فكرة أخيرة، مفادها أن الولايات المتحدة لا تملك إلاّ عدداً قليلاً من المصالح الاقتصادية الفعلية في الجزائر، إلى جانب كمّ قليل من الاستثمارات. ولكنّها قد تُظهر قدراً كبيراً جدّاً من حسن النية من جانبها، عن طريق منح الجزائريين الشبان آلاف المنح الدراسية لدخول كلّيات وجامعات أميركية. وعلى الرغم من ارتباط الجزائريين ببلادهم ومستقبلهم، فقد أقرّ كل الذين قابلتهم، من رجال ونساء، بأنه في عالمنا المعاصر، تتناقص أهمية الشريحة الناطقة بالفرنسية بسرعة، مع تحوّل الإنكليزية الآن إلى اللغة العالمية، التي من الضروري أن يفهمها الجميع لمعرفة ما يحصل، وللتمكن من التواصل مع الآخرين.
* أكاديمي بريطاني - جامعة هارفارد
|