الاربعاء, 01 ديسيمبر 2010 خليل العناني *
من يراقب الانتخابات البرلمانية المصرية يخرج بنتيجة وحيدة مفادها إصرار النظام المصري على إجراء الانتخابات بأي ثمن ومهما كانت العواقب. وهي نتيجة منطقية إذا فُهمت في سياق المكاسب التي تحققها الانتخابات للأنظمة السلطوية كما أوضحنا في مقال سابق في هذه الصفحة قبل أسبوعين. بيد أن السؤال الملّح هو: كيف يمكن تفسير ما جرى في الانتخابات بطريقة علمية ومنهجية؟ هنا يمكن الاستفادة من نظريات علم الاجتماع التي تسمح بسبر أغوار العلاقة بين السلطة والمجتمع، وتعيد تفكيك العلاقة بين النظام السياسي وبقية أطراف اللعبة السياسية في شكل أكثر عمقاً. ولعل أكثر هذه النظريات تفسيراً للحالة المصرية هي «نظرية الدور» Role Theory وهي نظرية مهّمة تقوم على فكرة جوهرية مفادها أن أي مجتمع يقوم على مجموعة من الأدوار «الافتراضية» التي يضطلع بها أفراده، وكي يتحقق الانسجام والتعايش بين هؤلاء الأفراد لا بد من أن يقوم كل طرف بأداء «دوره» ووظيفته أو على الأقل أن يتظاهر بأدائها.
وللتبسيط فإننا نقوم بأدوارنا الاجتماعية (الأب، أو الابن، أو العم) ليس فقط بسبب وجود علاقة عضوية Organic Relationship بين أفراد الأسرة، وإنما بحكم العادة habituation أو بحكم مقتضيات الوظيفة «الاجتماعية» وذلك حتى ينتظم المجتمع ويمكنه إدارة شؤونه. المحك الأساسي في هذه النظرية هو «الافتراض» أو التظاهر Pretending، وهو ما يحدث في كثير من الأحوال من دون قصد أو بحكم العادة، وهو ما ينطبق أيضاً على أدائنا لأدوارنا الاجتماعية والسياسية. وبتطبيق هذه النظرية على الانتخابات المصرية الأخيرة، يمكن القول إن جميع الأطراف (النظام والمعارضة والمواطن والمجتمع المدني والإعلام) قد قام بدوره (الافتراضي) على أكمل وجه، حتى بدت الصورة وكأننا أمام انتخابات حقيقية.
فالنظام المصري قام بعملية تعبئة نفسية وتنظيمية وجماهيرية غير مسبوقة لهذه الانتخابات، ودشّن الحزب الحاكم ورجاله حملة إعلامية «ناجحة» من أجل تصوير الانتخابات كأنها أول انتخابات نزيهة تشهدها البلاد (في إقرار ضمني بفساد الانتخابات الست التي أُجريت خلال العقود الثلاثة الماضية). وقد تناثرت وعود النزاهة والشفافية طيلة الحملة الانتخابية من أجل إقناع المواطن بالذهاب إلى صناديق الاقتراع كواجب وطني لا يجب التخلي عنه، في حين قام رجال الحكم بأدوارهم «الافتراضية» باحتراف، فلم تتدخل أجهزة الأمن في سير العملية الانتخابية، ومارس رجال القضاء دورهم في توجيه الرأي العام (بروز دور اللجنة العليا للانتخابات ومؤتمراتها الصحافية المتكررة)، في حين تولى مرشحو الحزب الحاكم مراقبة عمليات التصويت حتى لا يفسدها منافسوهم «الافتراضيون».
من جهتها، قامت قوى المعارضة سواء الحزبية أو الإخوانية بدورها «الافتراضي» في الانتخابات، فهي بعد أن قبلت بالمشاركة فيها من أجل إثبات وجودها «الافتراضي» كمعارضة سياسية، تنبّهت فجأة لـ «الفخ» الذي نصبه لها الحزب الحاكم فقررت سلفاً أن الانتخابات قد تم تزويرها قبل أن تبدأ. وعلى رغم ذلك أصرّت المعارضة على الاستمرار في أداء دورها سواء من أجل حفظ ماء وجهها أمام قواعدها، أو على أمل أن يقوم الحزب الحاكم بدوره «الاعتيادي» ويسمح لها بقدر من التمثيل البرلماني. وكان طريفاً أن تتمسك جماعة «الإخوان المسلمين»، على رغم إقرارها بفساد الانتخابات قبل أن تبدأ، بمواصلة السباق الانتخابي تحت يافطة «فضح النظام وتعريته»، وهي مقولة اعتادت عليها الجماعة لتبرير مشاركتها في المناسبات الانتخابية. ولو كان لدى الجماعة حس سياسي لأدركت منذ فترة إصرار النظام على إقصائها عن الحياة السياسية، بخاصة البرلمانية، ولكنها تمادت في أداء دورها «الافتراضي» كما اعتادت عليه طيلة العقود الثلاثة الماضية.
أما المواطن المصري «الناخب» فلم يكن لديه سوى القيام بدوره «الافتراضي» للمساهمة في إنجاح هذا «العُرس الديموقراطي» على حد وصف الإعلام الرسمي. لذا فقد شارك حوالى 25 في المئة من الناخبين (بحسب الإحصاءات الرسمية التي أشادت بالإقبال غير المسبوق للناخبين) وذلك تحت وطأة التعبئة الإعلامية والسياسية للحزب الحاكم وأجهزة الدولة من جهة، ووعود المرشحين بتقديم مساعدات اقتصادية وعينية للناخبين من جهة أخرى. وعلى رغم ما هو معروف عن عزوف الناخب المصري وفقدانه الثقة في العملية السياسية برّمتها، فقد كان ثمة أمل يحدوه (عطفاً على التعبئة غير المسبوقة) في تحقيق قدر من التغيير. وعلى رغم ذلك لم تتكرر تلك الصورة الشهيرة للسيدة المصرية التي خاطرت بحياتها من أجل الإدلاء بصوتها في انتخابات 2005.
وقد حاولت منظمات المجتمع المدني القيام بدورها «الافتراضي» في مراقبة الانتخابات، ولكن لسوء الحظ كانت مشاركتها أقرب الى «ضيف الشرف» الذي لم يكن له دور فاعل في كشف التجاوزات الانتخابية أو وقفها. وقد أصرّ معظم هذه المنظمات على المشاركة في الانتخابات لأسباب متنوعة بعضها انطلاقاً من مقتضيات «الوظيفة» الرقابية «الافتراضية» للمجتمع المدني، والبعض الآخر انطلاقاً من إبراء الذمة أمام المانحين والداعمين لهذه المنظمات. وقد أضفت مشاركة المجتمع المدني في مراقبة الانتخابات قدراً من السخونة والإثارة التي خدمت المشهد الانتخابي وصبت في مصلحة الحزب الحاكم.
أما وسائل الإعلام فقد كانت اللاعب الأساسي في هذه الانتخابات سواء لجهة التغطية الإخبارية غير المسبوقة، أو لطبيعة الرسالة الإعلامية التي حاولت توصيلها. وقد شعرت لوهلة أننا أمام انتخابات الرئاسة أو الكونغرس الأميركي بسبب الكثافة الإعلامية بمستوياتها المقروءة والمرئية والمسموعة. وقد رسم الإعلام لوحتين متناقضتين للانتخابات، الأولى كان بطلها الإعلام الرسمي الذي قام بدروه «الافتراضي» في تقديم تغطية «وردية» للانتخابات واستضاف معلّقين وسياسيين تباروا في إبراز «استثنائية» اللحظة السياسية في مصر. أما اللوحة الثانية فقد رسمتها وسائل الإعلام الخاصة والأجنبية وهي صورة لانتخابات دموية وغير نزيهة شابها كثير من التجاوزات. وبدا المشاهد وكأنه يضع إحدى قدميه في العالم «الافتراضي» الذي حاول رسمه الإعلام الرسمي، والأخرى في العالم الواقعي الذي رسمه الإعلام غير الرسمي والأجنبي.
أما حصيلة هذه الأدوار «الافتراضية» فهي: أولاً، حقق الحزب الحاكم نجاحاً مبهراً سواء على صعيد الحصاد البرلماني، أو في ما يخص صورته العامة التي قدّم بها نفسه خلال هذه الانتخابات، والتي جعلت أحد قياداته يصفها بأنها بمثابة «ثورة سياسية». ثانياً، خسرت جماعة «الإخوان المسلمين» ليس فقط الانتخابات، وإنما أيضاً صورتها كحركة مجتمعية لديها قواعد شعبية. وهي ربما خسرت المعركة قبل أن تبدأ حين قررت المشاركة في الانتخابات تحت وطأة «الحنين» إلى نتائج انتخابات 2005. ومن الآن فصاعداً سيكون من حق النظام المصري أن يطعن في شعبية الجماعة ويواصل تبديد رأسمالها المجتمعي. ثالثاً، خسر المواطن المصري الذي شارك في الانتخابات بعد أن بدت مشاركته مجرد تأكيد لسيناريو مكرر منذ الثمانينات، وهو فوز الحزب الحاكم بالغالبية البرلمانية. في حين خسرت منظمات المجتمع المدني التي قبِلت المشاركة في انتخابات تعلم جيداً أنه لن يسمح لها بتحقيق رقابة جادة وفعلية على مجرياتها. وأخيراً نجح الإعلام الرسمي في تحقيق أهدافه، وخسر نظيره الخاص والأجنبي بعدما تم تصويره وكأنه متحيز ضد الحزب الحاكم ونوابه. وعلى رغم ما سبق فليس بمقدور أحد أن يجادل أو يشكك في نتائج الانتخابات طالما أن المواطن قد انتخب، والمعارضة قد شاركت، والمجتمع المدني قد راقب، والإعلام قد غطّى وحلّل ما جرى في هذه الانتخابات «الافتراضية».
* أكاديمي مصري - جامعة دورهام، بريطانيا.
|