تبرز منذ فترة ثلاث مقولات يُردّدها يساريّون وقوميّون عرب ممّن تبنّوا ادّعاء "الحياد الكامل" تجاه ما يجري في سوريا. المقولة الأولى مفادها أن "للسوريّين الحقّ في المطالبة بالإصلاحات، لكن أن يحملوا السلاح ويخرّبوا بلدهم ويتركوا دول العالم تتدخّل في شؤونهم، فالأمر يتخطّى حقّهم هذا ويستجلب عليهم وعلى بلدهم الكوارث"... هكذا، يُحمَّل من حملوا السلاح دفاعاً عن أنفسهم ثم كفاحاً لتحرير بلدهم من الاستبداد (بعد أشهر من القتل والتعذيب والاعتقال الذي ووجهت به التظاهرات السلمية) مسؤوليّةَ الهلاك الذي لحق بهم وبأهلهم. وهكذا أيضاً يصبح التوق للحرّية ولطيّ صفحة 43 عاماً من حكم القمع والمخابرات مسؤولاً عن انكشاف سوريا لتدخّلات الطامعين الخارجيّين. وعليه، ما على السوريّين إلا أن يستكينوا ويستسلموا لآلة القتل الأسدية كي تكفّ الشرور الخارجية عنهم وكي يتوقّف تحطيم مدنهم وبلداتهم! المقولة الثانية أنه "لا يمكن لديمقراطي أو لباحث عن كرامة وحقوق إنسانية أن يناصر ثورة تقودها جبهة النصرة والجهاديون الظلاميّون حتى ولو كانت ضد نظام مجرم". بهذه العبارات، يَختصر "المُحايدون" ملايين السوريّين بعناصر جبهة النصرة وبمن معهم من "مجاهدين" عبروا الحدود، ويستبدلون وجوه الناس "العاديّين" ويوميّاتهم، نساءً ورجالاً – صغاراً وكباراً – بملتحين تُثير صيحات قتالهم الهلع والرعب، وينفون بالتالي كل اضطرار لأسى تجاه الموت المعمّم طالما أن ضحاياه أحيلوا الى صوَر "للنصرة"، أو أنّ الأخيرة ورّطتهم في حلقات موت لا يمثّل المُغير بالطيران سوى تفصيل فيها. المقولة الثالثة هي تلك التي تتساءل، ببراءة الغباء أو بخبث سوء النية، عن جدوى ثورة السوريّين ضد مجرمين: "يعرفون أن النظام مجرم ولا يتورّع عن تدمير سوريا، فكيف لا يحسبون ردّة فعله إن ثاروا عليه!" وفق هذا المنطق، يتحمّل أكثر السوريّين والسوريّات مسؤولية خراب عمرانهم وقصفهم بالبراميل والصواريخ، إذ كيف لم يفكّروا بأن "نظامهم" لن يتردّد في إعدامهم إن تمرّدوا؟ ويمكن بالطبع إسقاط منطق التساؤل العجيب المذكور على حالات المجازر، فيصبح المسؤول عن ذبح أطفال البيضا وبانياس أهلُهم لأنّهم لم يفكّروا في عواقب مواقفهم. أما القتلة الفعليّون فهم قتلة تعريفاً لا مفاجأة في ما يفعلون، والمُفترض هو تجنّب غضبهم واستثارتهم لا لومهم أو استنكار أفعالهم! بهذا الصنف من المقولات، يعبّر المحايدون المزعومون عن كراهيتهم العميقة لأكثريّة السوريّين، إن عبر اختصارهم بجبهة النصرة التي يُعادون، أو عبر ادّعائهم تأييد حقوقهم لو لم يدافعوا عن وجودهم بالسلاح، أو عبر تحميلهم مسؤولية دفع القاتل الى قتلهم والتنكيل بهم. وكأنّهم بذلك يقولون "إن الثورة على المجرم لا تصحّ لأنه بالتحديد مجرم"! هذا الهراء المتجدّد وهذا البحث المتواصل عن أي أمر لتبرير التهرّب من اتّخاذ موقف يُظهر يوماً بعد يوم كم أن الثورة السورية جذرية في ما تهدمه من ثقافة نِفاق وخسّة، وكم أن أعداءها كثر. ويُظهر كذلك كم أنها مثابرة – رغم كل ما يعترضها من صعوبات وما تحمله في بعض جوانبها من تشوّهات ومن احتمالات ثأر وعنف – في مواجهة نظام حكم ومنظومة أحكام وعفن مستوطن في عقول ولغة لم تمثّل الحرّية لها في أيّ يومٍ أي قيمة، ولم تُقم مرّة للناس الذين تدّعي مناطحة المؤامرات باسمهم أي احترام أو أهمية...
|