التاريخ: أيار ١٢, ٢٠١٣
المصدر: جريدة الحياة
فترات الانتقال الغائمة - محمد الحدّاد
لا ينكر أحد أنّ التفاؤل بالثورات العربية تراجع كثيراً، لأسباب كثيرة من أهمها أن بعض الذين وصلوا إلى السلطة بدأوا يسلكون سياسات ويتصرفون تصرفات تذكّر بالعهود السابقة، مثل السعي إلى السيطرة على كل مؤسسات الدولة والإدارة وتقليص دور المعارضة وهيئات المجتمع المدني في التعبير والاحتجاج، من دون أن تمنح الفرصة للمشاركة الحقيقية في بناء الوطن الجديد. وقد ترتّب على ذلك شطط في خطابات المعارضات وهيئات المجتمع المدني التي لم تعد تفرّق أحياناً بين من وصل إلى السلطة بالشرعيّة الانتخابية ومن كان جاثماً عليها من دون شرعية، حجتها في ذلك أن الحكم على السلطة يكون بإنجازاتها لا بشرعيتها.

يضاف إلى ذلك دخول التطرف والإرهاب الدينيين على الخط، إما لإعاقة عملية الانتقال الديموقراطي، كما يحدث في تونس وليبيا ومصر واليمن، وإما لتحويل وجهة الثورة نحو الحرب الطائفية الطاحنة، كما هو الشأن في سورية. وكانت الثورات العربية ثورات اجتماعية أطلقها الشباب الذي يعاني البطالة والتهميش، لكنها اليوم بعيدة من تحقيق أهدافها الرئيسة، إذ ارتفعت معدّلات البطالة والفقر والتضخّم في كل مكان.

ومع ذلك، فإن البلدان التي شهدت الثورات، لأن عملية الإصلاح فيها كانت وصلت إلى طريق مسدودة، لا خيار لها إلاّ المسار الانتقالي الديموقراطي، بكل ما يحتويه من صـــعوبات وتحديات ومفاجآت. وعليها ألا تفقد البوصلة وإن كانت الرياح عاتية تحيدها عن السير في الاتجاه الصحيح. اتجاه البوصلة هو دخول العرب العصر الديموقراطي، وتحقيق النظام الديموقراطي ببعديه السياسي والاجتماعي.

وكل الأطروحات الأخرى إنما هي محاولات لإعادة تكريس الديكتاتورية في أشكال جديدة. علينا ألا نفقد البوصلة وإن كان المسار كلّه محفوفاً بالأشواك، لأن من ضلّ الطريق يمكن أن يعود إليها، أما من أضاع البوصلة فقد حكم على نفسه بالتيه النهائي.

تثبت التجربة العربية مع الديموقراطية أن هذه القيمة الكونية لم ترسخ رسوخاً عميقاً في الثقافة السائدة، على رغم قرون الاستبداد التي عاشها العرب، ولذلك أسباب وتفسيرات يطول عرضها. بيد أنه كان واضحاً منذ البداية أن الانتقال الديموقراطي في السياق العربي لا يمكن أن يكون على النمط «الكلاسيكي». فهذا المفهوم صيغ في الأصل انطلاقاً من تجارب بلدان كانت ديموقراطية، ثم شهدت انتكاسة شمولية، مثل النازية في ألمانيا أو الفاشية في إيطاليا، ثم بعد ذلك الشيوعية في أوروبا الشرقية. وفي هذه الحالات، كانت الشعوب مدعوّة للعودة إلى ثقافة وأنظمة عرفتها سابقاً واختبرتها، وكان السياسيّون متفقين على النمط العام، القائم على إعادة تفعيل الديموقراطية وتحصينها من انتكاسات جديدة. وعلى هذا الأساس، تجارب الانتقال الديموقراطي الكلاسيكي طالت أحياناً من ناحية الانجاز، لكنها كانت محدودة الطول من ناحية التصوّر.

أما مسارات الانتقال الديموقراطي في العالم العربي، فستطول من ناحية التصوّر والانجاز في آن. فليس هناك اتفاق على ماهية الانتقال، هل هو تدرّج نحو الديموقراطية، أم توظيف للآليات الديموقراطية وفلسفتها للتدرج بالشعوب نحو شرعيات بديلة للديكتاتوريات السابقة.

الديموقراطية لدى بعضهم هدف للمرحلة التاريخية وجوهر الثورات العربية، وهي لدى آخرين مجرّد وسيلة لا غاية، وسيلة لبلوغ السلطة لا لتغيير آلياتها.

هنا يتصارع مشروعان كبيران، لكن حظوظ إرساء أنظمة شمولية في العالم العربي، مثلما حصل في إيران بعد ثورة 1979، تظل ضعيفة، لأن التوازنات الإستراتيجية الجديدة الناتجة من العولمة لم تعد تسمح بذلك، ولأن الأنظمة التي ظهرت بعد الثورات لا تمتلك ثروات كافية لإسكات المعارضات بتلبية المطالب الاجتماعية وتوزيع جزء من الفوائض على المعارضين.

يبقى الاحتمال المقابل، المتمثل في تفكك الدولة وتشرذم المجتمع وانتشار الفوضى، وهذه الفرضية تظل أكثر خطراً، لكنّها تمثل في ذاتها فرصة لانتشار الثقافة الديموقراطية، باعتبارها الثقافة الأكثر تأهيلاً للحفاظ على الكيانات الوطنية في ظل التعدّد الديني واللغوي والعرقي، وأيضاً في ظل التنافس السياسي والاقتصادي.

ويمثل الانتقال الديموقراطي في جوهره «مأسسة» للثورات، أي تحويل المطالبات الثورية إلى مسار مؤسساتي واضح وشفاف كي تنتقل الشعوب المعنية من مرحلة المطالبات والشعارات والاحتجاجات إلى مرحلة البناء والإنجاز والتحقيق.

ويضاف إلى ذلك التقيّد بقواعد حقوق الإنسان عند تحقيق هذا المسار، ويترتب عليه تعميق الثقافة الجديدة عبر تلبية جزء مهمّ من المطالب الثورية. والأكيد، إذا لم يشعر المعنيون بأن وضعهم يتحسّن، أو إذا كانت المطالب شديدة التعارض في ما بينها، أن المسار نفسه يصبح معقداً وطويلاً ومهدّداً بالفشل.

لكنّنا نرى أن غياب الشكل الكلاسيكي للانتقال الديموقراطي لا يبرّر تشكيك بعضهم بنظرية الانتقال الديموقراطي برمّتها، وإنما يتطلب فقط التمييز بين حالات مجتمعات «تعود» إلى الديموقراطية ومجتمعات تختبرها للمرّة الأولى. وفي الحالة الثانية يمكن الحديث عن «فترات انتقال غائمة»، تتسم بالطول والتعقيد، لكنّها تظل قابلة للنجاح، لأن القوى التي وصلت إلى السلطة هي التي ستصطلي قبل غيرها بالواقع المعقّد للمجتمع وقضاياه، وللعالم حولها الذي لا تعدو أن تكون جزءاً منه، وللفارق بين الوعد والانجاز والتنظير والتطبيق، بما يجعلها أولّ المحتاجين إلى نظام ديموقراطي يحميها من احتجاجات عنيفة في المستقبل، ويمنح متنفساً للشعب للتعبير عن مطالبه من دون عنف. لذلك كان دور المجتمع المدني جوهريّاً في الحفاظ على البوصلة، كي تظل الديموقراطية ببعديها السياسي والاجتماعي هي الوجهة، ولا يسمح للسياسيين من كل الاتجاهات بتخدير الشعب مجدّداً للتحكّم به وسلبه السيادة بعد انتزاعها.