التاريخ: أيار ٥, ٢٠١٣
المصدر: جريدة الحياة
«حزب الله» وهجرة اليساريين الجديدة - سامر فرنجيّة
أثارت «علنية» قتال «حزب الله» في سورية، وليس قتاله الذي بدأ قبل سنة على الأقلّ، موجة استنكار المجموعات والأفراد ممن كانوا آمنوا به وخاب أملهم عندما أُجبروا على مواجهة الحقيقة المرّة: أنّ قمع الثورة بات عند هذا التنظيم «واجباً جهادياً». فلمن عارض مشروع «حزب الله» أصلاً، لم يكن هناك من مفاجأة في تورطه الدموي في سورية، بل بدا مجرّد استكمال لنهج بدأه منذ عقد إن لم يكن أكثر. المفاجأة والاستنكار كانا من نصيب من دعم الحزب في الآونة الأخيرة، ونظّر وسوّق له، واستثمر رصيده السياسي والفكري لإظهاره بحلّة تحررية ربما لم يطلبها أو يدّعيها الحزب ذاته.

نجح «حزب الله»، بخاصة بعد اغتيال رفيق الحريري، في أن يستقطب مروحة واسعة من الداعمين له من خارج إطاره الحزبي أو الأهلي، ممن أُعجبوا بكفاءته القتالية ضد الاحتلال الإسرائيلي (الكفاءة ذاتها التي تستعمل في سورية اليوم) وبانضباطه التنظيمي وتضحياته النبيلة وجمهوره الواسع. وبدأت عملية تنظير لتحويل خزان القوى الذي يمثله إلى مشروع تحرري، قامت على تقديم الحزب للعتاد والعسكر والجماهير، مقابل تقديم اليسار للفكر والتنظير والتوجيه... أو على الأقل، هكذا تخيل داعمو الحزب غير الحزبيين دورهم.

وقامت عملية التبادل هذه على ثلاث مقولات، شكّلت فكرة «لبننة» الحزب مكوّنها الأول، ليس بمعنى الانتماء الذي لا جدال حوله، بل بمعنى مخيلة الحزب السياسية. فضداً على اتهامه بالتبعية السياسية لإيران من جهة، واتهام اليسار بعدم لبنانيته لدعمه القضايا القومية، لا سيما الفلسطينية، قدّمت رواية لبننة الحزب حلاً من خلال توطين المقاومة وتأصيلها. فالحزب وفّر شرعية شعبية لمشروع المقاومة، وبات جزءاً من الإجماع اللبناني بعد اعترافه بنهائية الكيان اللبناني ونظامه. بهذا المعنى، لبنن الحزب القضايا القومية، وأمّن لداعميها أسساً وطنية، لا حرج فيها.

جاءت فكرة لبننة حزب الله معطوفة على مقولة أخرى، قائمة على «عولمته» وانضوائه في معارضة كونية ضد هيمنة الولايات المتّحدة. فمع صعود حلف عالمي ضد الإمبريالية والاسـتـشراق والنيو- ليبرالية، جرت عملية جراحة تجميلية واسـعة، اشـترك فيها لبـنانيون وغربـيون، أظـهرت الحزب كمكوّن رئيسي في هذا المحور، وذراعه الحربي الفعّال. هكذا تمّ اختراع حلف جديد، ملأ الفراغ الذي خلفه انهيار المنظومة الاشتراكية، وضمّ حول «حزب الله» دول «البريكس» وأميركا اللاتينية، وحركات الاعتراض على العولمة والنظام الاقتـصـادي الجديد، وخطاب مناهضة الاسـتـشراق. ولـمن شـكـّك بالـمضمون الـتحرري لـ«حزب الله»، وإن قبل بمـشـروعه الـمقاوم، قـدِّمت رواية ثالثة انطلقت من «العفـوية التـقدمية» للحزب. فمن الصعب تخيّل أن يكون من يقاوم من أجل التحرير مناهضاً للعدالة الاجتماعية، بحسب هذه الرواية. أمّا في مواضيع التحرر الاجتماعي، فالحزب لن يمانع في أن يخوض الآخرون تلك المعارك، وإن كانت ليـست مـعركته. فالحزب «طيب» ولكنْ جاهل بآخر التحـليلات الراديكالية، وهنا دور المثقف اليساري في إرشاده نحو هذه الجنة التحررية.

هذا التنظير لم يكنّ مجرّد طلب من «حزب الله» لتلميع صورته، بل ربما شكّل حاجة عند المنظّر اليساري الذي بات يبحث عن دور سياسي له، بخاصة بعد انهيار الخيارات السياسية اليسارية أو تحوّلها إلى مسلسل من صفقات وصفعات. فقدّم «حزب الله» لهذا المثقف الفاقد عضويته تنظيماً سياسياً وعسكرياً وجماهير كبيرة و«أصيلة» ودوراً لبنانياً وإقليمياً، أو بكلام آخر، كل ما فقده اليسار خلال الثمانينات. وبذا تحوّل المثقف اليساري من مثقف عضوي إلى مترجم ومفسّر ومعلم، يقدّم خبرته لحزب وجماهير، خُيِّل له أنها تتشوق إليها. وأزيل الغبار عن الترسانة المفاهمية لتتأقلم مع الوضع الجديد، كما تمّ تحديثها بأحدث التحليلات وأُعيد ترتيب الأوليات والتناقضات، لتخرج التلفيقة اليسارية-الحزب اللهية إلى النور.

بيد أنّ التلميذ لم يأبه بتحليلات المعلم، وكمّل مسيرته التي لم ينحرف عنها يوماً، على رغم توبيخ المعلم الدائم. فجاءت الانتخابات، وتبيّن أن الحزب، كسائر الأحزاب اللبنانية، تقليدي في عمله السياسي، ورجعي في برنامجه الاجتماعي. لكنّه بقي ضد النيو-ليبرالية، كما أصرّ المعلم. فجاءت حكومة المقاومة، وتأقلم الحزب مع الحرية الاقتصادية بسهولة لافتة، وتقبّل طائفية وعنصرية وعمالة بعض حلفائه بقلب واسع لم يألفه باقي اللبنانيين.

فشلنا في الداخل، صرّح المعلم، ولكنْ يبقى العنوان الوطني والإقليمي. غير أنّه استفاق على الحزب وهو «يطهّر» القصير ويشارك في الدفاع عن أكثر النظم دموية من أجل هذا.

هنا حلّت الأزمة. بعضهم قرر أن يبقى مع الحزب حتى النهاية، وأن ينزع تلك الترسانة الفكرية ليصبح مجرّد حزبي. آخرون اشمأزوا من السياسة ووجدوا في العلمانية خروجاً مشرفاً من اللعبة. أما البعض الثالث، فحرد، وقرر أن يستعيد من الحزب ترسانته الفكرية، وأنّ يعاقبه بإعادته إلى ما كان قبل هذه التلفيقة، أي حزباً لطائفة. وقد نودي زياد الرحباني كي يلاقيه في هجرته الجديدة، ليفاجأ بقرار الأخير البقاء مع الحزب. فبدأت الاستنكارات وحفلات النقد الذاتي والحنين إلى اليسار عندما كان يساراً، والمقاومة عندما كانت نبيلة.

غيرّ أن المشكلة ليست في «حزب الله» ورسوبه في امتحان التحرر. فهو لم يدّعِ أبداً أنّه حامل مشروع تحرري، كما أنّ حركة «حماس» لم تدّع أنها ليست إسلامية، أو روسيا أنّها محبة للشعوب، أو قطر (عندما كانت تـموّل وتُـشـكر على هذا التمويل) أنّها بؤرة ثـورية. الفـضـيحـة لم تكن في قتال «حزب الله» في سـورية، بل في تخيّل أنّه لن يقاتل هناك. وهذه الفضيحة، ليست في الحزب وطائفيته أو استتباعه، بل في تلك الترسانة التي أصرّ المثقف اليساري على استرجاعها، وباتت أقرب إلى «عقدة ذنب» لهذا التقليد السياسي والحاجز الأول لاستعادة دوره.

لا بدّ من الاعتراف بأنّ اليسار، بخاصة بعد أزمته الأخيرة، لم يعد جواباً عن سؤال سياسي أو حلاً لمعضلة نظرية. هذا لا يعني زواله أو انقضاءه، بل تحوّله من جواب إلى سؤال وتحدٍ هو التحدي الأهم الذي يواجه حركة تحررية جديدة. بهذا المعنى، بات اليسار مرادفاً للسؤال عن إمكانية ربط التحرر والعدالة والسيادة بمشروع واحد. وهذا السؤال، كان من التضليل الإجابة عنه بـ... «حزب الله».