التاريخ: أيار ٥, ٢٠١٣
المصدر: جريدة الحياة
المشروع النهضوي العربي: من أبوية النص إلى أبوية الثورات (1-2) - خالد الحروب
تقول مقدمة «المشروع النهضوي العربي» الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية عام 2010 إن فكرة المشروع بدأت في التبلور عام 1988، وأن باحثين بدأوا عملياً تقليب وصوغ أفكاره الاولى في العام 1996، ثم تطوّر تشكّله في ندوات ولقاءات في السنوات اللاحقة إلى أن صدر كما هو بين أيدينا الآن. معنى ذلك أنه خلاصة تداول فكري وبحثي بين عشرات، إن لم يكن المئات، من المثقفين العرب امتد على مدار عقدين من الزمن، أو أربعة عشر عاماً على أقل تقدير. وعليه لنا أن نتوقع إتصاف المشروع والنص بالصلابة والدقة والتمحيص الذي تتيحه كل تلك السنوات، وتوفره إسهامات كل أولئك المشاركين وندواتهم من بيروت إلى القاهرة إلى فاس وغيرها. ورغم ما تشير إليه مقدمة الكتيب من ان نص المشروع أنتجه مفكرون ومثقفون وناشطون عرب من خلفيات فكرية مختلفة إلا انه بالإمكان القول بأنه يقدم عملياً رؤية القوميين العرب لراهن ومستقبل العالم العربي تحت عنوان «المشروع النهضوي العربي». ويستحق المشروع والنص وما فيه من طروحات مهمة وغنية وخلافية وقفة نقدية موسعة بغية إثراء النقاش العام حول الحاضر والغد العربي، وهو ما ستحاول القيام به هذه المقاربة.

يفصل الكتيب بإسهاب المنطلقات الفكرية والرؤى النظرية التي «يجب» أن يستند إليها «المشروع النهضوي العربي» الذي يجتمع حوله القوميون. وبصرف النظر عن الموقف من المشروع برمته أو مكوناته يجب القول ابتداءً إن إصدار أي تيار سياسي وفكري في المنطقة العربية رؤيته بتفصيل ووضوح كافيين للنقاش العام هو خطوة إيجابية تستحق الإشادة. فهنا نستطيع التعرف إلى معالم الفكر السياسي والتطلع المستقبلي واختبار الأفكار ونقدها وكذا فحص آليات التطبيق. إضافة إلى ذلك توفر لنا تلك المعرفة إمتلاك أدوات موضوعية لنقد ومحاسبة أي تيار بناءً على إعلاناته الفكرية والسياسية، وهذا - وهذا وحده - يعمق تداول الأفكار ونقاشها والسجال حول إمكانات تطبيقها ومدى واقعيتها وخدمتها للجمهور الذي تستهدف خدمته. وقبل الشروع في تأمل ونقد ما جاء في «المشروع النهضوي العربي» ربما جاز التمني هنا على بقية التيارات السياسية أن تطرح أيضاً للجمهور رؤاها «النهضوية» البعيدة المدى تحت الشمس وللنقاش العام. نريد أن نرى ما يمكن أن يسمّيه الإسلاميون «المشروع النهضوي الإسلامي»، وما يمكن أن يسمّيه اليساريون «المشروع النهضوي اليساري»، وما يمكن أن يسمّيه الليبراليون «المشروع النهضوي الليبرالي».

السمة التي مّيزت التيار القومي العربي في الوقت الراهن، ومكّنته من إصدار مشروعه المُقترح لنهضة العرب هو وجود تجمع وقطب فكري وسياسي يتحدث باسم القوميين يتمحور حول «المؤتمر القومي العربي» ومركز دراسات الوحدة العربية في بيروت. فبالمقارنة، لم يتمتع أي تيار آخر في المنطقة العربية يروم التعبير الجماعي عن مكوناته أو فروعه في العالم العربي بناطق رسمي أو قطب فكري وسياسي يستطيع الزعم بأنه يعبّر عن رؤية جماعية عابرة للحدود الوطنية. حتى حركة «الإخوان المسلمين» التي لها فروع ربما في كل الدول العربية عانت ولا تزال تعاني من حيرة وارتباك مثير عند مواجهة سؤال ما بعد الدولة الوطنية، وينكشف هذا الارتباك اكثر في المرحلة الراهنة وبعد الثورات العربية ووصول الاسلاميين الى الحكم. بمعنى أن الاسلاميين وحركة «الاخوان» تحديداً لا تطرح مشروعاً أو رؤية تفصيلية على مستوى العالم العربي أو الإسلامي تقول فيه ما الذي تعمل على تحقيقه في كل فضاء من الفضاءات: الوطني، العربي، الإسلامي. والأمر نفسه ينطبق على قوى اليسار والقوى الليبرالية التي هي أضعف بكثير من التيار الإسلامي ويشتغل ويُستنزف كل منها في دائرة الوطني.

لكن يجب ألا يمر هذا من دون أن نذكّر أنفسنا بأن وجود عنوان فكري وسياسي ونخبوي للتيار القومي وإن كان يقدم ميزة تفضيلية فإنه لا يعكس بأي حال من الأحوال ميزة تفوق من ناحية القوة والتأثير على مستوى الرأي العام والفاعلية السياسية. بل ربما العكس تماماً، أي أن غياب أحزاب وحركات قومية فاعلة في كل بلد من البلدان العربية ربما أتاح بروز نخبة قومية تتحدث باسم تيار قومي (غير موجود بالمعنى التنظيمي او الحزبي على الأرض) حيث لا توجد خلافات أو صراعات حقيقية بين تلك الأحزاب المُفترضة على من يمثل من، ومن ينطق بماذا.

في كل الأحوال تتوافر لدينا الآن وثيقة فكرية مهمة تنقل السجال حول الفكر القومي العربي إلى مرحلة أكثر معاصرة، وتكرس عنوان الفكر القومي في الوقت الراهن. فإن كانت عقود الاربعينات والخمسينات والستينات والسبعينات من القرن العشرين قد أتاحت متابعة فرصة مباشرة للتعرف غلى الفكر القومي العربي ومعالمه عن طريق أدبيات الأحزاب القومية، أو منظّري القومية العربية الكبار، فإن من يقوم بذلك الدور الآن هو الأدبيات التي تصدر عن المؤتمر القومي العربي ومركز دراسات الوحدة العربية، وحديثاً المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. الفارق الكبير واللافت بين الحالتين هو عدم وجود حامل سياسي (حزب فاعل، أو سلطة حاكمة) في الحالة الثانية أي الراهنة يمكن أن يعمل على تطبيق الأفكار التي ترد في الأدبيات. ثمة فارق كبير آخر يتمثل في جماعية التعبير عن الفكرة وعدم نسبها لفرد أو منظر محدد. فـ «المشروع النهضوي العربي» لا يكتبه منظر واحد ننسب إليه الأفكار. ليس هنا أي ساطع حصري، أو ميشيل عفلق، او قسطنطين زريق، أو منيف الرزاز أو عبدالله الريماوي أو غيرهم. بل هناك نص جماعي يستقوي بسمته العامة والجماعية تلك، لكنه في الوقت نفسه يتيح إمكان المراوغة والتفلت لأي مُساهم شارك في صوغه بالقول إنه وافق على هذا الجزء ولم يوافق على ذاك. وهي مشكلة دائمة تواجه النصوص المشتركة حيث تضيع المسؤولية الفكرية ويتم التهرب من المآزق الحقيقية بما يقود في كثير من الاحيان إلى تعثر السجال وافتقاد النقاش للغنى المطلوب.

يتوزع «المشروع النهضوي العربي» على ثمانية فصول هي: «في ضرورة النهضة»، «التجدد الحضاري»، «الوحدة»، «الديموقراطية»، «التنمية المستقلة»، «العدالة الاجتماعية»، «الاستقلال الوطني والقومي»، «آليات تحقيق المشروع». وكل فصل من هذه الفصول يستحق نقاشاً مستقلاً وموسعاً. لكن من المهم والمفيد الإشارة إلى بعض الملاحظات النقدية التقديمية العامة. أولها الاهتمام البارز والمركزي بقضية الديموقراطية وأولويتها وموضعتها في قلب الأفكار التي يتبناها المشروع. وهذا يعد نقلة أساسية ومهمة في الفكر القومي العربي الحديث مقارنة بالمشروعات القومية الكلاسيكية التي وإن اهتم بعضها بالديموقراطية فإن ذلك الاهتمام بقي هامشياً وجزئياً. الملاحظة الثانية النزعة التوفيقية التي غلبت على المشروع حيث أراد صوغ مشروع يكون محط توافق قومي، إسلامي، يساري، ليبرالي. وبسبب هذا الهاجس الذي بدا كبيراً في أذهان من صاغوا المشروع فإن خلاصاته التوافقية الهادفة إلى بناء «كتلة تاريخية» ظلت تتسم بالعمومية والغموض الذي أريد منه أن يرضي كل الأطراف. لم تكن هناك حاجة إلى مثل هذه المغامرة الفكرية الفاشلة مُسبقاً، إذ لا يمكن صوغ مشروع فكري يوفق بين ايديولوجيات متنافسة. يمكن الوصول إلى توافقات سياسية جبهوية موقتة أو مطولة تتسم بتنازلات مُتبادلة، لكن هذه العملية لا تنطبق على تخليق جبهوية ايديولوجية تجمع ما هو متناقض تعريفاً. محاولة التوفيق الفكري شلت كثيراً من نصوص «المشروع» وأبقتها في منتصف الطريق، كما سنناقش ذلك لاحقاً. كان حرياً بـ «المشروع النهضوي العربي» أن يقدم رؤية القوميين العرب وحدهم من دون لبس، ومن دون محاولة أو ادعاء تمثيل بقية التيارات الفكرية والسياسية في المنطقة العربية. كل تيار من تلك التيارات يعبّر عن رؤيته الخاصة بطريقته المنفصلة، وعندها نستطيع أن نساجل كل فكرة على حدة، ويستطيع الجمهور أن يُفاضل بينها ويحكم. بيد ان يفاقم من شلل هذه التلفيقية الايديولوجية هو الأبوية المُستبطنة في نص «المشروع النهضوي العربي»، وهي ابوية فكرية وايديولوجية وسياسية. لا يترك النص أي مساحة ديموقراطية أو صحية للاختلاف مع طروحاته. وإذ يقر بأن من المفهوم ان يكون هناك معترضون على «المشروع» فإنه سرعان ما يتهمهم بأنهم مرتبطون بـ «الأجنبي» ويخدمون أهدافه، مسطراً ما يلي: «... فمن المؤكد وقوف فئات أخرى في المجتمع ضده (أي المشروع النهضوي). فئات قد أدت بها الظروف المحلية والدولية، والأثرة السلبية، إلى ربط نفسها ارتباطاً نفعياً بالأجنبي، وإيجاد المتعاونين المحليين الذي ييسرون تنفيذ مآرب هذا الأجنبي، ويجنون من ذلك المنافع ضد إرادة معظم فئات الأمة ومصالحها. ومع مضي مشروع الوحدة العربية قدماً في حيز التنفيذ وبروز محاسنه وجني ثماره يزداد المقتنعون بجدواه ويتحولون إلى منادين به ومنضوين تحت لواء تنفيذه، ويلقى السائرون في ركب الأجنبي مصير سابقيهم».

• من مقدمة كتاب بعنوان «نقد المشروع النهضوي العربي» يصدر قريبا.