الصحابة والأنصار والمهاجرون وأيّام الإسلام الأولى يحضرون اليوم حضوراً قويّاً في الحياة العربيّة. إنّهم يحتلّون موقعاً متقدّماً في راهنها، بحيث يكاد يبدو أنّ الصراع الأكبر الذي يدور فيها إنّما يدور حولهم، تقويماً لهم ولتركتهم وتدبّراً لمراقدهم.
وكان صدّام حسين، رئيس العراق «العلمانيّ» و «الحداثيّ»، قد أبلى بلاء حسناً في هذا المضمار، فيما شاركه خصمه آية الله الخميني هذا الاستخدام الموسّع للماضي المقدّس، وإن في وجهة معاكسة تماماً للاستخدام الصدّاميّ. لا بل أسّس الخميني ثورته وجمهوريّته ذاتهما على «شرعيّة» القطع مع الحداثة بصانعيها ومصنوعيها والرجوع إلى حيث استقرّ التاريخ قبل مئات السنين.
بيد أنّ النزاع العراقيّ – الإيرانيّ الذي بلغ ذروته في حرب الثمانينات ظلّ شاهداً على إمساك السلطتين المركزيّتين والاستبداديّتين، في بغداد وطهران، بعناصر السجال هذا، وعلى تحكّمهما بوجهته. لكنْ مع صعود جماعة «القاعدة» وشقيقاتها، بدأ السجال نفسه يلتصق بالجماعات الأهليّة وتنظيماتها، فيما كانت تتكاثر النُذر الدالّة على دخول الدول المركزيّة في المشرق العربيّ طوراً متقدّماً في تفسّخها.
وبالفعل كانت «القاعدة» وشقيقاتها أكثر من ساهم في هذا «البعث» وتعميمه استحضاراً للماضي، بإطلاقيّة لا قيد عليها، إلى قلب الحاضر، أسماءً ورموزاً ومواقع. وفي هذه الغضون، فإنّ الذين لم تُعرف عنهم المغالاة في هذا المنحى، كالبعثيّين السوريّين وسلطتهم، لم يجابهوه ولم يحاولوا مرّة تطوير وعي آخر يعاصر عصرنا ولو قليلاً.
في هذه الغضون كانت الأنظمة، كما المنظّمات، تراهن على استخدام هذا التوحيد مع «الشعب»، في الماضي و «التراث»، ضدّ العدوّ الخارجيّ الغريب. فظلّ إنتاج الوعي القديم وتحفيزه لازمة ضروريّة من لوازم الصراع (ضدّ «الاستعمار» أو «الإمبرياليّة» أو «الكفرة» أو «اليهود» أو «الصهاينة» أو «المستكبرين»). أمّا الواقع الفعليّ فكان يشهد على دور ذاك التوحيد المزعوم في تعزيز تفتّت الجماعات وإغنائه، هي التي تملك أصلاً، في هذا المشرق العربيّ، الكثير من أسباب التفتّت.
وفي النتيجة كاد وفاضنا السياسيّ يخلو من كلّ شيء ما خلا اثنين: الدين في تأويل له ماضويّ، ونظام القرابة الذي تتّسع أشكاله لتصير روابط طائفيّة وعرقيّة. الأوّل معلن نستنطقه كلّما احتاجت السلطات إليه، وهو، في الوقت عينه، الملاذ المتاح للمعارضات في مواجهة استبداد تلك السلطات، والثاني حاضر في أفعالنا وفي تنظيم مجتمعاتنا ورسم رغباتنا، وكثيراً ما يوظَّف (كما وُظّف قبله الوعي القوميّ) غطاءً وتبريراً للنوازع القرابيّة الموسّعة.
وعلى سويّة موازية، صير إلى تثبيت صورة الإسلام بوصفه الإسلام الأوّل. فالحضارتان الأمويّة والعبّاسيّة وما شهدتاه من أفكار وعلوم وآداب وتثاقُف ونقد وترجمة وشكّ وتوسّع في الرفاه والاستهلاك...، كلّ هذا تُرك الاهتمام به لعدد من المستشرقين الذين واجهناهم بالشتائم. وكانت الأفكار السياسيّة الشعبويّة التي اعتنقناها تحضّ جميعاً على استبعاد مظاهر الفرز الاجتماعيّ و «الأبّهة» والاختلاط بـ «الأعاجم»، فتُفقر الإسلام بحصره في صدر الإسلام وحقبة راشديّة عاش فيهما المسلمون وحدهم بقليل من التمايز الاجتماعيّ لعالم بسيط.
وهذه لوحة داكنة جدّاً، يبقى من الظلم وسوء النيّة تحميل مسؤوليّتها للثورة السوريّة وحدها، وإن ظلّ مطلوباً دائماً نقد تمكّنها من الثورة السوريّة. ألا يقتضي الإنصاف والنزاهة شيئاً من توزيع المسؤوليّات هذا؟
|