التاريخ: شباط ٢٣, ٢٠١١
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
 
ثورات عربية... تقوقع لبناني - عبد الوهاب بدرخان

الخبر في وكالات الأنباء العالمية. واذا صح فهو مخز ومشين، إذ يقول إن "1500 عنصر من حزب الله اللبناني يشاركون في قمع التظاهرات في ايران" يومي 14 و20 شباط. مصدر الخبر منظمة ايرانية معارضة هي "مجاهدي الشعب"، ولأنه مصدر وحيد يبقى الشك ضروريا والتحقيق من المعلومات واجبا. لكن، استنادا الى تجربة طويلة لوسائل الاعلام مع هذه المنظمة والاخبار التي تبثها، يمكن القول إنها تحاذر الاختراع والتلفيق مخافة ان ينقطع التعامل معها وأن ترمى بياناتها في القمامات. وفي بعض الاحيان كانت هذه المنظمة مصدرا لأخبار ايرانية أكثر أهمية ظهرت لاحقا في صحف طهران. وما يعنينا هنا ان شبانا لبنانيين موجودين في ايران، للتدرب على القتال في اطار المقاومة ضد اسرائيل، فاذا بهم يستخدمون هناك ايضا في الداخل، وفي دور بشع يفترض أنه ليس لهم وضد مواطنين ايرانيين يتظاهرون للمطالبة باصلاح النظام وبحرية التعبير، مستخدمين أكثر الوسائل مدنية وسلمية.


خلال الفترة ذاتها ظهر الامين العام لـ"حزب الله" على الشاشة ليمجد انجاز المعارضين الثوار في مصر بانتصارهم على بطش السلطة وقمعها ثم باسقاطهم النظام نفسه، رغم ان السيد حسن نصر الله لم يهتم كثيرا بالطابع السلمي الحضاري الذي ميز الثورة المصرية. لكن ما الذي يدعو "حزب الله" الى الاعتقاد أن النظام الايراني الذي يدعمه هو بالضرورة أفضل من النظام المصري الذي يحتفل بسقوطه. فكلاهما طالب الشعب ويطالب باسقاطهما. ثم ان القمع هو القمع، سواء ارتكبه الحرس و"الباسيج" او "الامن المركزي" و"البلطجية". وأي "حركة تحرر" تحترم دورها ومكانتها لا يمكن ان تميز بين قمع مقبول – بل تشارك فيه – وقمع آخر مرفوض بالضرورة.


هذا يعيدنا الى الواقع الممض الذي أغرق فيه لبنان، فاذا به أبعد ما يكون، للمرة الاولى في تاريخه المعاصر، عن الروح الجديدة المندفعة في شرايين الوطن العربي. ففي العادة يكون لبنان سباقا، واليوم لا يبدو حتى قادرا على ان يكون ملتحقا بالركب. فالقوى التي تعتبر نفسها طليعية ومتقدمة، بفضل نهج "المقاومة" وفكرها، هي ذاتها التي تشد بلبنان الى التخلف والتراجع. في حين ان القوى المفترض أنها تقليدية رجعية وعملية للخارج تبدو – للمفارقة – هي التي تحاول أن تدفع بالبلد الى مواكبة المحيط العربي في طموح شبابه للحرية والكرامة والديموقراطية. وقد برهن هذا الشباب العربي، بتجاوزه القوالب السياسية التقليدية، أنه معبر عن روح استقلالية أصيلة قادرة حتى على وضع خطوط حمر للتدخلات الاجنبية أكثر مما تستطيعه أعتى الحركات السياسية المسلحة. ولأنه تمكن من اكتساب هذه القوة فقد بدا أيضا متمتعا بالرحابة لاستيعاب الجميع، بأديانهم وطوائفهم وايديولوجياتهم المختلفة.


في مقابل هذه التجربة العظيمة التي يتجه اليها العالم العربي، ولا يهم أن تستغرق وقتا وتتخللها صعوبات، نجد لبنان يتحول الى قواقع بابلية متنافرة تزداد انغلاقا على ذاتها ليتمتع الراغبون الخارجيون في تدخلاتهم وصراعاتهم على أرضه. وفيما نجد المجتمعات العربية تهب للتخلص من "الاحتلالاتت" الداخلية سعيا الى استقلالاتها الحقيقية بالانعتاق من الحكام المستبدين، يمعن لبنان في الرزح تحت "احتلال داخلي" غير مسبوق، ولا بديل لهذا الاحتلال الداخلي سوى "احتلال" آخر "أخوي"... وبين هذين الخيارين المتكافلين المتضامنين، لكن المتنافسين ايضاً، من الطبيعي ان يصعب تركيب أي حكومة، واذا توافرت لها المعادلة الكيميائية الممكنة أخيرا، فان وصفة التعجيز والافشال جاهزة ايضا بفضل عقلية الاحتلالين اللذين قد تلتقي ألاعيبهما وقد تفترق بحسب الظروف.


الامر الجيد في الازمة الراهنة ان أفرقاء 8 و14 آذار يعيدون اكتشاف أنفسهم، ما يربط بينهم وما يميز أو يفرق. عند الـ"14" هناك أمر متعارف عليه، وهو أنهم ملتقون رغم معرفتهم لاختلافاتهم، وحتى من انفصل عنهم لا يستطيع القول إنه فعل ذلك اعجابا وانجذابا الى الطرف الآخر. عند الـ"8" يبدو أن "الانقلاب الدستوري" واشكالات الاستيزار والسند السوري للرئيس المكلف قد أحدثت بلبلة لم تكن في الحسبان، خصوصا ان بعض أركان التحالف يرى من العماد ميشال عون ما يدهش بمقدار ما يقزز. هذه الحكومة الاولى التي تؤلف على خلفية لعبة يعرف لاعبوها المحليون والاقليميون مسبقا أنها قذرة لأنها بنيت أساسا على اقصاء فريق لا يطرح نفسه انه طائفة، وإنما فريق وطني عابر للطوائف ستشكل له التجربة في المعارضة اختبارا شديدا لتماسكه وسيكون عليه أن يبرهن لنفسه وللبنانيين أن ما يقرب بين أطرافه شيء آخر أكبر من السلطة.


مناخ التغيير في العالم العربي لا بد أن يكون ملهما للمعارضة الجديدة، خصوصا انها بنت استراتيجيتها على أسس استقلالية: احترام الدستور بما يعنيه من اعادة الاعتبار للدولة والقانون، والعدالة لئلا تمر جرائم الاغتيال بلا عقاب، وتحريم "سلاح المقاومة" في الداخل... هذه الاستحقاقات تستند جميعا الى طموحات لبنانية داخلية مشروعة، والى قرارات اتخذتها الشرعية الدولية. كيف يمكن للذين يدافعون عن شعار "الجيش والشعب والمقاومة" ان ينسوا أن الجيش يعني الدولة وأن الشعب يعني "كل" الشعب وأن المقاومة تكون أقوى وأكثر مناعة باحترامها الدولة والشعب. وكيف يمكن للذين يحتفلون بانتصار الثورة المصرية ألا يستلهموا انها انتصرت بالوفاق الشعبي أولا وأخيرا.