التاريخ: نيسان ٢٨, ٢٠١٣
المصدر: جريدة الحياة
السلوك الإخواني بين السخط الداخلي والرضا الخارجي - صلاح سالم
لعهود متوالية، استمرت جماعة «الإخوان» في مراكمة شرعيتها لدى المصريين تعويلاً على عاملين أساسيين: أولهما الشعور بالمظلومية التي عانوا منها نتاجاً لقمعهم في تلك العهود، وحظرهم في معظمها، بصرف النظر عن مدى مسؤوليتهم عن هذا القمع أو ذاك الحظر. وثانيهما هو عداؤهم المعلن، كجزء من عموم التيار الإسلامي، لإسرائيل باعتبارها «العدو الصهيوني»، وللغرب الأورو - أميركي، باعتباره مصدراً للإلحاد الديني، والغزو الثقافي والعدوانية الصليبية، النازعة إلى تفتيت عالم الإسلام.

هكذا هيمنت تصورات أيديولوجية بسيطة على إدراكات الجماعة السياسية، رأت معها مثلاً أن التصدي لإسرائيل قضية «نخوة»، تتعلق فقط بهمّة الرئيس وشجاعة النظام. وإزاء تهافت هذه التصورات البسيطة إلى حد السذاجة، وتشابك مكونات الواقع إلى درجة التعقيد، كان طبيعياً، عندما جلسوا في مقاعد الحكم وصاروا أكثر قدرة على رؤية المشهد من داخله، أن يتبدى لهم الأمر أخطر من همّة حزب أو شجاعة رئيس، وأن يدركوا حقيقة أننا إزاء دولة عدوانية، من طراز فائق الهمجية، تربطنا بها اتفاقات دولية، لا يعدو التحرر منها أن يكون بداية تصعيد نحو ذروة ربما كانت هي الحرب، وكذلك أمام دولة عظمى وقطب عالمي، ربما من طراز فريد، يملك جلّ عوامل القوة، وينسجها معاً في بناء شبكي، يذهب بسطوته ونفوذه إلى كل مكان في العالم مهما كان قصياً.

وفي الحقيقة يمكن موافقتهم على كثير مما ذهبوا إليه، خصوصاً ما يتعلق باحترامهم اتفاق السلام مع إسرائيل الذي طالما دانوه. ولكن ما لا يمكن موافقتهم عليه، هو أن تتحول العلاقة مع الولايات المتحدة من دعاية سلبية لهم تمكنوا بها من وصم شرعية النظام السابق، إلى رافعة لتكريس شرعيتهم، يستقوي بها على مواطنيهم. فإذا كان خطأ بناء شرعية على مجرد علاقة عداء مع أي طرف، فالخطأ الأكبر أن تبني تلك الشرعية على مجرد صداقة مع هذا الطرف نفسه، فيما يدار الظهر للطرف الأصيل القادر وحده على منح تلك الشرعية، وهو الشعب المصري. هنا لا بد من صوغ توازن حساس بين متطلبات النهوض المصري على طريق التقدم والحرية، ومتطلبات الكبرياء الوطني على طريق استقلال القرار وممارسة الدور.

أؤكد هنا على احترام السلام كحالة إنسانية طبيعية بين البشر والأمم، وإن كنت لا أمنحه أولوية مطلقة، بالتالي لستُ ممن يستبعدون قطعياً الحرب مع إسرائيل، أو يرفضون تماماً التنافس مع أميركا، فالمجتمعات الحية لا بد أن تتنافس دوماً، أو حتى تتحارب أحياناً حفاظاً على حيويتها، لأن الهروب من المواجهة، مع خصم يصر على العدوان، ربما كان طريقاً خلفياً للتداعي الحضاري، إذ يعوق التدفق الإبداعي الحر للأمة جماعات وأفراداً، ويشل قدرتهم على الخلق والنمو... إذ يكسبهم قيماً انهزامية واتكالية على حساب قيم الإتقان والاجتهاد، ويفسد ذوقهم الفني فينحدر به إلى خطاب الغرائز والتنكيت الساذج بدلاً من الخطاب العقلاني والجمالي العاطفي والاجتماعي والوطني والإنساني. والهزيمة النفسية للشعوب تكاد أن تعادل، وربما تفوق، الهزيمة العسكرية من حيث النتائج على المدى الطويل الذي يتسق وأعمار الشعوب لا الأفراد.

لا أردد هنا رأي نيتشه في الحرب، ولا أعتقد بأنها ضرورة لتجدد الأمم وتقدم الحضارة، فذلك دور قد تنهض به فكرة فلسفية كالحرية، أو سياسية كالديموقراطية عبر صراع سياسي مقنن، وتبادل سلمي للسلطة، أو علمية تقول بالتطور وتنشد الارتقاء. لكن الحرب قد تصبح ضرورة وجودية عندما يوجد عدو يصر عليها، لأنك هنا لست أمام خيار ثالث، فإما أن تحاربه وإما أن تخضع له. ولعل تلك هي مفارقة السيد والعبد التي تحدث عنها الفيلسوف هيغل مفسراً بها ظاهرة العبودية التي بدأت مع خوف رجل من أن يرفع سيفه في مواجهة رجل آخر، فلم يكن أمامه آنذاك سوى الاستسلام له، والدخول في فلك طاعته.

يفرض علينا التفكير السليم إذاً وضع ظاهرة الحرب في سياقها التاريخي والإنساني، فلا الرفض القطعي لها يبقى ممكناً، ولا التجرؤ على قرارها يبقى معقولاً. إنها مهمة كبرى، شاقة ومؤلمة، لكنها تصبح ضرورية في لحظة تاريخية ما، ومن ثم فلا طريق عقلانياً سوى الاستعداد لها بما يليق بها من حسابات رشيدة، وعبر مراكمة مقوماتها على أصعدة التنمية الاقتصادية، والتطوير العسكري تسليحاً وتدريباً، والتهيؤ الاستراتيجي الحقيقي، والإجماع الوطني الكامل.

ولعل المشكلة الكبرى الآن أن مصر تكاد أن تفتقد هيكلياً جلّ هذه المقومات. فحتى أبسطها، وهو الإجماع الوطني، يبقى أسيراً لحال استقطاب سياسي وثقافي شديد، لم تبذل الجماعة أي جهد لتجاوزه، بل لم تترك فرصة متاحة أمامها لتعميقه إلا وانتهزتها في شتى الملفات الداخلية المفتوحة للجدل والنقاش. وبدلاً من أن تلجأ الجماعة إلى مواطنيها، تستقوي بهم لمواجهة الآخرين، نجدها تستقوي بالآخرين لمواجهة مواطنيها.. وبدلاً من أن تقدم التنازلات لمعارضيها في الداخل تحقيقاً لإجماع صلب في مواجهة الخارج، نجدها تتنازل للقوى التي طالما ادعت كراهيتها في الخارج، ثمناً لعدم إدانة مواقفها في الداخل.

تشي الخبرة التاريخية هنا بأمرين أساسيين: أولهما أن حاكماً أو نظاماً، لم يستطع أن يصارع الآخرين، فيما يعادي شعبه، فكلما اقترب من شعبه صار أقوى في مواجهة خصومه ومنافسيه، وكلما ابتعد عن شعبه وقع في غوايتهم. وثانيهما أن الأمم غالباً ما تنجح في خوض صراعاتها العسكرية كلما طالت فترات السلم التي تسبقها وتفتحت خلالها قرائحها الجمعية بالإبداع العلمي والإنجاز الاقتصادي وصولاً إلى التفوق الحضاري، فالقوة العسكرية. وعلى العكس، تخفق الأمم في خوض تلك الصراعات كلما فقدت قدرتها على التصالح مع نفسها، أو وقعت أسيرة لاضطراباتها القادرة على وأد عبقريتها الفردية وروحها الإبداعية، لتجد نفسها، تدريجياً، في دوامة الانحدار. عندها تكون الهزيمة العسكرية بداية للتداعي الحضاري، أو العكس، فهو أيضاً صحيح.