«وأمام واقع متشابك في كل ما فيه... لا تدّعي جماعتنا العصمة، ولا ننفي عن أنفسنا الخطأ، ونحن أولى الناس بالعودة إلى الحقّ إن تبيّن. لكن الحق كذلك يقتضينا أن نوضح أن كثيراً من الاتهامات تنسب إلينا زوراً وبهتاناً. وأن كثيراً من الأخطاء تحمّل علينا ظلماً وعدواناً. وبعضها قد يرتكبها من لا يمتّ إلينا بصلة، ويحسب نفسه أو يحسبه الناس علينا، وبعضها قد يكون خطأ فردياً لأخ، لم يحالفه الصواب في قول أو عمل».
أخيراً خرج «الإخوان» عن صمتهم، فالاستهلال السابق مأخوذ من بيانهم الصادر في 11/4/2013، المكرّس للرد على الانتقادات التي وجّهت الى الجماعة، بخاصة غداة تسمية رئيس الحكومة الموقتة خارج التوافق، ما فتح باب الاختلافات والانسحابات في الائتلاف الوطني، مع تلميحات أو تصريحات تنتقد هيمنة «الإخوان» على المجلس والائتلاف.
الفقرة المأخوذة تخلص إلى تمثّل قول الشاعر «يا ناطح الجبل العالي ليَكْلِمه/أشفقْ على الرأس لا تشفقْ على الجبل»؛ هذا قبل أن تستشهد الفقرة التالية والأخيرة بالحديث النبوي «إن الرائد لا يكذب أهله» قاصدة الدور الريادي للجماعة.
تنفي الجماعة عن نفسها العصمة، وهذا مأثور دارج في الخطاب الإسلامي، وسبق أن استُهلك مراراً تحت زعم الحق الذي تتنافس حتى الجماعات الإسلامية على ادّعائه، فلا يغدو مستغرباً أن تعتبر نفسها «أولى الناس بالعودة إلى الحق إن تبيّن»، بينما تترك مسألة الخطأ والصواب، بصفتهما نسبيين، لأفراد من التنظيم أو من إطاره العقائدي. فالحق هنا يتمثّل في الجماعة التي لم تخطئ سابقاً، ولا أثناء الثورة، وما يضمره البيان أنها لا تخطئ وإن كان لا يجوز لها شرعاً ادّعاء العصمة. إذاً، حل هذا التناقض يكمن في تحميل الأخطاء للأفراد، وكما في كل الشموليات بما فيها العدو البعثي اللدود، تبقى الفكرة في منزلة الحق، لا ينتقص منها تراكم الأخطاء الفردية مهما تكررت وتعددت.
لا يرى «الإخوان» أنفسهم جماعة من بين جماعات، فوفق البيان ذاته «حملت جماعة الإخوان المسلمين منذ نشأتها، عبء المشروع الإسلامي لشعبنا في إطاره الوطني». وبعد عبارة قصيرة عن الدولة المدنية الحديثة التي يتساوى فيها المواطنون على اختلاف انتماءاتهم، يأتي التفسير بأنها «دولة تنتمي إلى هذه الأمة الوسط على مدى ألف وخمسمئة عام، حاملة دعوة الإسلام، حارسة قيمه، حيث ظلَّ الشام موئلَ الفئة الظاهرة، تنفي عن الإسلام تحريف الغالين وانتحال المبطلين». هنا يستوي المعنى تماماً، فذكر الفئة الظاهرة يغمز مباشرة من قناة الطوائف الأخرى التي تُصنّف تاريخياً باطنيةً بموجب هذا الخطاب، الأمر الذي يجرّدها من أحقية المساواة، أو من أحقية تولي زمام القيادة، لأنها غير أمينة أصلاً على قيم الإسلام.
لا يخرج الجانب السياسي الإجرائي عن سياق الخطاب. فالجماعة تنسب الى نفسها وإلى الإسلاميين عموماً فضل مقارعة استبداد «البعث» خلال نصف قرن حيث «بدأت القوى السياسية تتوارى عن الساحة، ولم يبقَ إلا بعض الرموز من المعارضين الشرفاء الذين يأبى علينا إسلامنا ووفاؤنا أن نغمطهم حقهم ودورهم؛ لتبقى الجماعة شبه وحيدة في ساحة المعارضة». هكذا، بضربة واحدة وبلا تمييز، يشير البيان إلى تواري القوى السياسية عن الساحة، لا إلى تغييبها قسراً ولا إلى آلاف المعتقلين ولسنوات طويلة من تنظيمات أخرى معارضة، بينما لا يقصّر في شرح سياسة الإقصاء والاستئصال التي تعرضت لها الجماعة خلال نصف قرن، ما أدى إلى ضعفها وقلة إمكاناتها وفق فقرة أخرى ترد على «المبالغات» التي ينسجها واهمون عن دورها الحالي.
ومع أن الانطباع السريع يوحي بتسلل الإنشاء المجاني إلى بعض فقرات النص، فالتدقيق فيه يؤدي إلى استنتاجات مغايرة يطعن بعضها بالشعارات التي يرفعها «الإخوان» تقرباً من القوى السياسية المدنية. فالبيان يسهب في وصف الثورة الحالية بأنها ثورة العامل والفلاح والمثقف والتاجر، ولكلّ منهم دوافعه التي يشرحها، وهي أيضاً «ثورة المرأة التي تُحرم من حقها الوطني لأن زيّها في اللباس لا يعجب بعض الذين وضعوا قيماً للحداثة وللعلم والعقل، غير تلك التي يقررها العلم والعقل»! أي أن مشاركة المرأة في الثورة لا تعدو كونها ثورة من أجل حقها في ارتداء الحجاب أو النقاب، مع التنويه بأن النظام الحالي لم يمنع سوى النقاب وفي مهنة محددة هي التعليم، وتراجع عن قراره هذا مع مستهل الثورة رشوةً للإسلاميين، تضاف إلى قراره إنشاء محطة تلفزيونية دينية. وهما مطلبان لم يكونا أصلاً على لائحة مطالب الثورة.
في الرد على المنتقدين والمتشككين، يشير البيان إلى أن الجماعة «تنازلت عن كثير من مقاعدها لشخصيات من الطيف الوطني الواسع» في المجلس الوطني، من دون توضيح شافٍ لحجم الكوتا الأصلية الممنوحة لها، ولسبب استحواذهم على كثير من المقاعد بالمقارنة مع «الطيف الوطني الواسع». ضمن هذا السياق، لا يرى «الإخوان» في تنازلهم المزعوم منّة من المهيمن للقوى الأخرى، بل يرون في الصخب والضوضاء اللذين يثيرهما «بعض المشاغبين» (هكذا وردت في النص) جزءاً من «نفسية المستبد الذي يغضب كلما لاحظ أن الأمور لا تسير على هواه». أما رقعة أولئك المشاغبين فتمتد من الذين انتقدوا تسميات أيام الجمع والشعارات الدينية وصولاً إلى الذين انتقدوا دور «الإخوان» في المجلس الوطني والائتلاف: هم «دعاة السوء الذين تفننوا بإلحاق الأذى بهذه الثورة»، و «ربما ساهم ذلك في هذا الموقف الدولي المتخاذل عن نصرة شعبنا وثورته».
مرة جديدة يفوّت «الإخوان» فرصة الرد على منتقديهم للدخول في حوار حقيقي شفاف، فهم يقدّمون رواية جامعة مانعة لإرثهم تجعله غير قابل للمساس، ويستغلون انعدام الشفافية في ما يحدث ضمن مجالس المعارضة؛ الأمر الذي يحجب عن المنتقدين الأرقام والوقائع الدقيقة. في المحصلة، مَن انتقدوا «الإخوان»، وهم كثر، يتحدثون في السياسة وليسوا أصحاب أدلة جنائية، وهذا ما ينبغي أن يتنازل له الخطاب الإخواني، فلا يتهرب من السياسة تارة بحجة انعدام الأدلة وتارة باللجوء إلى العموميات واليقينيات الكبرى. بانتظار أن يحدث هذا، سيستمر الرأس في مناطحة الجبل العالي حتى يصبح بدوره رأساً ككل الرؤوس.
|