رغم الاختلاف حول طبيعة ما جرى في 25 كانون الثاني (يناير)، وهل هي ثورة أم مجرد انتفاضة شعبية، ورغم الصراع السياسي والاجتماعي بشأن هوية مصر الثقافية والاقتصادية، وملامح النظام السياسي الجديد ومستقبله، فإن هناك تغيّرات عميقة في المجتمع والثقافة المصرية، لم تستقر أو تتبلور ملامحها، لكن من الممكن رصدها، وإخضاعها للتحليل. في هذا السياق، ركزت الكتابات عن الثورة المصرية على ظاهرة كسر المصريين الخوف الموروث من السلطة بكل رموزها، وقدرتهم المتنامية على تحدي تلك الرموز في دولة نهرية مركزية عريقة كمصر، كان للسلطة والسلطان فيها هيبة وقدرة غير محدودة على البطش من دون حساب. وتوقفت أيضا الكتابات عن الثورة عند تفاصيل كثيرة تتعلق بتهميش شباب الثورة والمرأة والمسيحيين، إضافة إلى مظاهر الانقسام والاستقطاب الثقافي والأيديولوجي بين القوى المدنية والإسلاموية، لكن أظن أن هناك ظواهر أخرى عديدة اجتماعية وسياسية تستحق الرصد والتحليل، لعل أهمها: 1- ارتفاع أصوات المهمشين وتأثيرهم في المشهدين السياسي والاجتماعي، فالمهمّشون اجتماعياً يفرضون وجودهم في المتن الاجتماعي، سواء بطرق ووسائل مشروعة أو غير مشروعة، فالباعة الجائلون يحتلون القاهرة والمدن الكبرى، ويربكون حركة المرور، ومع ذلك تعجز الشرطة عن مواجهتهم، أو الحد من مظاهر البلطجة والعنف في الأحياء العشوائية التي تعيش في شبه استقلال عن سلطة الدولة، حتى إن سكانها توقفوا منذ 25 كانون الثاني (يناير) عن تسديد قيمة استهلاك الكهرباء والمياه للدولة! في الوقت نفسه تسجل أعداد الاحتجاجات والوقفات العمالية والفلاحية زيادة مستمرة، اقترنت بقطع الطرق العامة، ونجاح العمال والموظفين بعقود موقتة في فرض إراداتهم وتحقيق مطالبهم العادلة. وعلى مستوى آخر، فإن الجماعات المهمشة سياسياً وفنياً تفرض وجودها وأصبحت أكثر جرأة وقدرة على التعبير عن أنفسها ورفع مطالبها، فالجماعات الإسلاموية المتشددة والجماعات اليسارية المتطرفة والفوضويين، وفرق الغرافيتي والموسيقى والغناء، كل هذه الجماعات تعمل في العلن وبحرية، ولم يعد من الممكن تجاهل كل هؤلاء المهمشين، رغم أنهم قد يفشلون على المدى البعيد في تنظيم أنفسهم أو كسب أنصار جدد، ومن ثم الاعتراف بوجودهم وتأثيرهم في المجتمع. 2- تراجع مكانة الرئاسة والسخرية منها، فحاكم مصر لم يعد الفرعون المقدس، أو التجسيد الحي لمصر، بل صار موظفاً عاماً، من حق الجميع تقييم أدائه وانتقاده والسخرية العلنية وعبر الميديا الجديدة والقديمة منه. لذلك، فإن سهام النقد والسخرية من الرئيس محمد مرسي غير مسبوقة في تاريخ حكام مصر في العصر الحديث، ولا شك في أن هناك أسباباً كثيرة تفسر هذه الظاهرة منها: كسر المصريين حواجز الخوف من السلطة السياسية والأمنية، وضعف أداء الرئيس وعلاقته الملتبسة بجماعة الإخوان المسلمين، وتدهور الاقتصاد والأمن وتهديد الوحدة الوطنية والأمن المائي، ما أدى إلى اتساع دائرة المعارضة وانقسام الشارع بحدة وعمق حول أداء الرئيس مرسي وشخصيته، لدرجة أن أغلبية النخبة المصرية تتعامل مع الرئيس على أنه لن يكمل مدته الأولى – مضى منها عشرة شهور - وأنه رئيس انتقالي. وباستثناء الإخوان وبعض الأحزاب والجماعات الإسلاموية، هناك فريق من النخبة والشارع يدعو إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، اعتقاداً منه بضرورة احترام آلية الصندوق الانتخابي، بينما يتمنى فريق أوسع تدخل الجيش حتى وإن جاء على حساب الديموقراطية الوليدة، فالمهم من وجهة نظرهم الحفاظ على أمن الوطن ووحدته. وثمة فريق ثالث أكثر راديكالية يعمل من أجل ثورة جديدة تحقق أهداف ثـورة 25 يـنـاير التي يـؤمن بأن الإخوان سرقوها ووظفوها بالتفاهم مع الادارة الأميركية لتحقيق مصالحهما المشتركة. 3- التحول المستمر والمتناقض في مواقف الرأي العام، حتى يمكن القول إننا إزاء رأي عام متقلب يفتقر إلى العقلانية ويصعب توقع مواقفه، أو الوسائل التي يعبر بها عن نفسه سواء كانت سلمية أو عنيفة وفوضوية، وترتبط هذه الخصائص بمرحلة ما بعد الثورات والانتفاضات الكبرى إلا إنها في مصر أكثر وضوحاً وتأثيراً في الأحداث، فقد أيد معظم الرأي العام ثورة يناير واقترن هذا التأييد بارتفاع سقف التوقعات والآمال، وبتأييد جارف للجيش والإخوان والسلفيين في الانتخابات البرلمانية (حصدوا أكثر من ثلثي المقاعد). ولكن سرعان ما انقلب الرأي العام على الجيش في أثناء المرحلة الانتقالية، ثم تراجع انبهار الرأي العام بالإسلاميين وتخلى عن تأييدهم في الانتخابات الرئاسية، بدليل أن مجموع الأصوات التي حصل عليها الإسلامويون في الجولتين الأولى والثانية أقل من مجموع الأصوات التي حصل عليها مرشحو القوى المدنية. أيضاً تراجع التأييد والحماسة للثورة لمصلحة نوع من الحنين إلى عصر مبارك الذي كان يوفر الأمن والاستقرار، كما تراجع التأييد لجبهة الإنقاذ ورموزها، بينما ارتفعت شعبية الجيش وتحسنت صورته من جديد، حتى إن قطاعات واسعة من الرأي العام، وفق استطلاعات عديدة، تطالب بعودته إلى الحكم، فهو رغم أخـطائـه يـظل أقدر وأكثر كفاءة في إدارة شؤون الوطن. 4- تسييس الدين أو تدنيس المقدس، وهي ظاهرة مركبة وبالغة التعقيد، انتشرت على نطاق واسع بعد الثورة، وتتجلى في عديد من الصور الاجتماعية والسياسية، أهمها زيادة مظاهر التدين الشكلاني، نتيجة زوال المضايقات الأمنية التي كان يتعرض لها الملتحون والمنقبات والمتطوعون لبناء المساجد والزوايا. كما انتشر الخطاب الديني ورموزه وصار له الصدارة في الخطاب السياسي لرئيس الدولة وللنخبة السياسية بعد الثورة، إذ ظهر 15 حزباً بمرجعية إسلاموية، وتصدر النخبة السياسية دعاة ورجال دين. ومع كل ذلك، لم يسجل أي تراجع في مستويات الجريمة أو التحرش الجنسي، بل إن الأخير ارتفع وسجل معدلات أعلى مما كان عليه قبل الثورة وقبل وصول أول رئيس مصري ملتحٍ، وأول رئيس وزراء ملتحٍ أيضاً. والمفارقة أن بعض شيوخ الدعوة السلفية الذين دخلوا البرلمان أو شكلوا أحزابـاً سيـاسية، تورطوا في ممارسات بعيدة من أخلاق الإسلام، وفشلوا - وكذلك الإخوان - في تقديم نموذج أخلاقي في العمل السياسي، بل على العكس، أصابتهم السياسة بأمراضها وأكاذيبها وخطابها المزدوج، ووظفوا الإسلام لأهداف سياسية ودعائية، ما كشف تدنيس السياسة للمقدس الديني. وعلى مستوى آخر، فإن تدنيس المقدس طاول أيضاً حرق كنائس واعتداء متظاهرين وبلطجية على الكاتدرائية، وعلى مقر شيخ الأزهر، والإساءة إلى رجال دين، علاوة على حصار المساجد واستخدامها في ممارسة عنف ضد الآخر، في تطور غير مسبوق في الحياة الثقافية والاجتماعية للمصريين المعروف عنهم احترام الرموز الدينية والمساجد والكنائس وعدم التطاول أو الاعتداء عليها، وعدم إقحامها في الصراع السياسي. 5- تراجع الأمل في المستقبل لدى قطاعات واسعة من المصريين، خصوصاً الشباب، الذين فجروا الثورة، وفجروا معها ثورة تطلعات مشروعة أثبت المسار المتعثر للمرحلة الانتقالية ثم حكم الرئيس مرسي أنها تطلعات زائفة، ولا يمكن تحقيقها، من هنا انتشرت مشاعر ومظاهر الإحباط الاجتماعي، بل والتشكيك في جدوى الثورة نفسها ومستقبلها، فمع تدهور أوضاع الاقتصاد والأمن وارتفاع مؤشرات الخوف من الدخول في حرب أهلية وفق النموذج العراقي والسوري، فإن كثيراً من المصريين يلقون بالمسؤولية كاملة على الثورة! ويهاجرون – خصوصاً المسيحيين – أو يحلمون بالهجرة الى العالم الخارجي، ويدافعون صراحة عن نظام حسني مبارك، رغم أن أهداف الثورة لم تتحقق. كما أن الثورة نفسها كفعل، غير مسؤولة عن حكم العسكر والإخوان المسلمين، إلا أن تردي الأوضاع الاجتماعية والغلاء ينعشان أفكار الكفر بالثورة إذا جاز التعبير، كما يدعمان الإيمان الشعبي بفكرة الربيع العربي كمؤامرة غربية صهيونية ضد الدول العربية بهدف تقسيمها وإغراقها في مشاكل وحروب أهلية.
* كاتب مصري
|