قطع لبنان شوطاً بعيداً في الاقامة في أحضان الطوائف، ولا يزال يتلوى بسبب "عشق" هذه الطوائف لشعوبها، فيما تتمثل بلدان عربية متعددة بهذا "العشق" لتدخل جهنم العيش مع صعود الطوائف وسعيها الى اكتساح المساحة العامة والتسلط على المجتمع والنظام السياسي على السواء.
لا تتمايز الطوائف في الأساسيات التي تقوم عليها. كلٌّ منها تحتكر السماء، وتنسب الإله الى منظومتها. كلٌّ تنسب الى نفسها الدين الحق فتنطق به، فيما تقيم الأخرى في الضلال، مصيرها جهنم وبئس المصير. لا يزال خطاب احتكار الدين وتكفير الآخرين سائداً منذ تأسيس الأديان، ويتجدد هذا الخطاب كل فترة من دون ان يتزحزح عن أساسياته. لم تتوان الطوائف، كلما سنحت لها الظروف، عن التكوّن في مؤسسات دينية تربط المنتسبين اليها بقوانينها وتعليماتها، ثم تتحول مؤسسات سياسية تؤدلج السياسة عبر تنسيبها الى الدين، وتلزم المؤسسات السياسية الخضوع للعقل اللاهوتي الذي تصدر عنه، لتصل أخيرا الى بلورة موقعها في مؤسسات عسكرية، وظيفتها اخضاع المرتدين والمتمردين بالقوة.
قد يكون من المستحيل الحديث عن طوائف عادلة وطوائف غير عادلة. كلها تتساوى في اللاعدالة. عندما تهيمن واحدة على مجال ما، تحتكره وترفض تقاسمه مع الآخرين. يصدر مثل هذا الموقف عن خلفية ايديولوجية قوامها ان كل طائفة هي التي تملك الحقيقة، مما يعني نبذ الآخر. وعندما يتاح لطائفة الامساك بالسلطة، كليا او جزئيا، فإن سلاحها الوحيد هو استخدام العنف وقمع الآخر، حتى ولو كان ينتمي الى مذهب من الدين نفسه. لا يحتاج المرء الى شواهد من التاريخ السحيق لصراع الطوائف والمذاهب، في المسيحية والاسلام، ليرى حجم الدماء التي أريقت لمئات الالوف من المواطنين الأبرياء. "تتمتع" المجتمعات العربية بالعودة دائما الى مثال الماضي، وتستلهم طوائفها هذا الماضي بكل عنفه، فتتموضع هذه المجتمعات في خمسة عشر قرنا الى الوراء، لتعيد ملاحم الصراع على السلطة في الزمن الراهن.
لا تعرف الطوائف مصطلحات التسامح والرحمة بالآخر، ولعل ابشع انواع العنف هو الذي دار بين طوائف تنتمي الى الدين نفسه. في العالم المسيحي، سالت أنهر من الدماء، رافقها ابشع انواع التعذيب، من خلال محاكم التفتيش التي اخترعت وسائل رهيبة لتعذيب من تراهم مخالفين لتعاليم الكنيسة. في بعض كتب التاريخ نماذج عن هذه الوسائل، فقد "كانت قاعة التعذيب غرفة مظلمة جدرانها سوداء. يغلق عليها باب من الحديد السميك. وفي أرضها سلاسل ضخمة مشدودة إلى حلقات في الأرض. وكانت تلك السلاسل لربط المذنبين حين تعذيبهم، وإلى جانب ذلك توجد مجالد من الجلد المعقود على رصاص ودواليب، وسحابات ذات مسامير صدئة حادة لتمزيق الأجساد، وعضاضات حديدية لعض اللحم، ثم أكاليل حديد ذات مسامير ناتئة من الداخل تطوّق بها جبهة الضحية ثم يأخذ المعذب في تضييقها شيئاً فشيئاً بواسطة مفتاح يدور بلولب حتى تغرز المسامير في الرأس. ثم هناك كلاليب ذات رؤوس حادة لسحب أثداء النساء من الصدور، وآلات لسلّ اللسان من أصله، وأخرى لتكسير الأسنان، وأحذية حديد تحمّى لدرجة الإحمرار يلبسونها لمن ساء حظه ووقع في أيدي هؤلاء الوحوش، ثم أحذية أخرى حديد ذات مسامير من الداخل يضعونها في رجل السجين ثم يأخذ الموكل بالتعذيب في تضييقها شيئا فشيئا. وتوجد مشنقة معلقة في السقف لكي تشنق المعذب نصف شنق، فلا هو حي فيرجى ولا هو ميت فيوارى...".
لا تقل الطوائف الاسلامية وحشية في استخدام أساليب مشابهة. فهناك الضرب والجلد وتقطيع الأوصال الذي يشمل قطع اليدين واللسان والأذنين وجدع الأنف وصولاً إلى قطع الأعضاء التناسلية للرجل. ومورس التعذيب بسلخ الجلود، والإعدام حرقاً، وشيّ الضحايا على نار هادئة، وصولا الى الصلب ودفن الأحياء. ومن الاختراعات في هذا المجال ما يعرف بـ"تنور الزيات" نسبة إلى مخترعه، وهو يصنع من خشب تخرج منه مسامير حادة وفي وسطه خشبة معترضة يجلس عليها المعذب. كما اخترعت وسائل اخرى من قبيل ما يعرف بـ"إخراج الروح من طريق آخر"، غير طريق الفم، حيث يؤخذ الرجل فيكتّف ويحشى القطن في أذنيه وخيشومه وفمه، ثم توضع منافخ في دبره حتى ينتفخ ويتضخم جسده، ثم يسد الدبر بشيء من القطن. وبعدها يفصد من العرقين فوق حاجبيه حتى تخرج الروح من ذلك الموضع. ومن الوسائل القديمة الحديثة المستخدمة الخوزقة والتقطيع.
في الحروب الاهلية اللبنانية، خصوصا ما جرى منها بين الطوائف المسيحية- المسيحية، وصل العنف والتعذيب الى أعلى ذراه، بحيث لا يقاس بما شهدته الصراعات بين الطوائف الاسلامية والمسيحية. حصل الامر نفسه في الصراع الشيعي – الشيعي على الهيمنة، بحيث لا تزال الفرائص ترتعد عندما تستعاد ذكريات تلك المرحلة في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. فكلما كان "العدو" قريبا، كان العنف تجاهه اشد قسوة. في هذه الحروب مارست الطوائف فنون التعذيب بشكل يقارب ما عرفته العصور القديمة. وكان عنف الطوائف اللبنانية يطاول كل من يقع في منطقة هيمنة الطائفة وميليشياتها، بصرف النظر عن الدين والجنس والعرق. كان القمع الوسيلة الوحيدة لإسكات من يعارض هيمنة الطوائف، وكانت مطالبة الدولة بالعودة والامساك بالأمن مما يوجب قمع القائلين بها. لقد عاش اللبنانيون مآسي لا حدود لها من هيمنة الطوائف وعنفها، وادركوا ان عنف الدولة وأجهزتها الأمنية تظل ارحم بكثير من سيطرة الطوائف. في منطق الدولة هناك قانون يمكن اللجوء اليه، اما في منطق الطوائف فتسود شريعة الغاب.
في المجتمعات الغربية، أمكن الإصلاح الديني وما تبعه من انتشار فكر الانوار الداعي الى فصل الدين عن الدولة ووضع كل مجال في مكانه، ان يحقق حداثة من أهم نتائجها تحرير الفرد من سيطرة رجل الدين عليه. لم يصل هذا الاصلاح الى الطوائف المسيحية في لبنان، فالمؤسسات الدينية لا تزال مصرة على ربط الفرد المنتمي الى المسيحية بحبالها. اما الطوائف الاسلامية، فلا يزال الاصلاح الديني المنشود فيها اشبه بحلم بعيد المنال، بحيث تجد المؤسسات الدينية "متعتها" غير المحدودة في الهيمنة على العقل والجسد، واخضاعهما لأكثر الفتاوى تخلفا. |