التاريخ: نيسان ٢١, ٢٠١٣
المصدر: جريدة الحياة
المحاضن الدينية في مصر بعد الثورة - هاني بشر
لطالما لجأ المتدينون المصريون على مدار التاريخ إلى محاضن للحفاظ على عقيدتهم في مواجهة أي احتمال للاضطهاد. ومن المعروف أن الرهبنة المسيحية نشأت في مصر للحفاظ على العقيدة المسيحية في مواجهة الوثنيين. واستمر طقس البيات الديني الشتوي مخزوناً في الذاكرة الشعبية يلجأ المصري إليه عند الضرورة. وأبرز مثال على هذه المحاضن الدينية حالياً، جماعة الإخوان المسلمين والمجتمع الخاص داخل الكنيسة الأرثوذوكسية. وهنا ينصب التحليل على الوظيفة الحقيقية والخدمة التي يقدمانها للمواطن المصري مع الفارق في الشكل والأسلوب وطريقة التنظيم.

نشأت جماعة الإخوان كرد فعل ديني شعبي تلقائي على الجو العام الذي شعر بأن الإسلام في خطر بعد سقوط الخلافة ونشاط الإرساليات التبشيرية في مصر، فضلاً عن الاتجاه الثقافي الذي بدأ ينمو وينتقد مسلَّمات في الإسلام. تطورت هذه الظاهرة بعد ذلك لتدخل في اشتباكات سياسية وحزبية، ليست هذه المقالة موضوعاً لها. لكن الملاحظ أنه كلما ازداد التحدي الخارجي على الظاهرة الدينية في مصر، ازدادت انكماشاً وانعزالاً عن المجتمع الخارجي في محاولة للاكتفاء ذاتياً من الزاد الروحي ثم الجانب المادي بعد ذلك من طريق استحداث نظام تكافلي لا يرتهن الى سيف المعز وذهبه. ولعل أبرز مثال على هذا وصية حسن البنا للإخوان بألا يحرص الأخ على الوظيفة الحكومية، ولكن إن واتته فرصة الالتحاق بها فلا يرفضها. تطور الأمر عند الإخوان ومع الصدام مع عبدالناصر إلى فكر سيد قطب الذي يعتبره كثيرون مؤصلاً لفكرة العزلة الاجتماعية. وفكر الرجل ببساطة غير منقطع الصلة بالفكرة المصرية التقليدية في تعاملها مع التهديد المحيق بما هو ديني، في دولة مركزية لا تتساهل مع معارضيها.

وفي شكل موازٍ تقريباً، كان يتشكل في الكنيسة المصرية الأرثوذوكسية محضن داخلي يوفر للمسيحي مجتمعاً موازياً يكفيه مشاكل المجتمع الخارجي. فمع العواصف التي اجتاحت السياسة المصرية مع النصف الثاني من القرن العشرين ومع انتهاء شهر عسل الوحدة الوطنية في ثورة 1919 الذي شهد التحاماً وطنياً صار مضرباً للأمثال، بدأت الكنيسة والمسيحيون يشعرون بالبرد الطائفي، فتعاظم دور مدارس الأحد في استدعاء واضح لفكرة الرهبنة التي أبدعها المسيحي القديم ولكن في إطار مدني. ثم كان الصدام الذي تخوفت منه الكنيسة مع الرئيس الراحل انور السادات ليصل الى ذروته مع دخول البابا شخصياً طرفاً في نزاع قضائي ينتهي بعزله في سابقة تاريخية خطيرة. وهي أحداث برهنت أهمية الحاضن الكنسي للمسيحي المصري في ظل دولة غير قادرة على ضبط إيقاع العلاقات بين الأديان المختلفة، ناهيك باستجابتها المطلب الديموقراطي أو حرية الرأي.

لم يكن عصر الرئيس المخلوع حسني مبارك استثناء في الشأن الديني من الفترة التي سبقته، فلم يحدث متغير كبير يضطر كلا المحضنين الكبيرين، الإخوان والكنيسة لتغيير استراتيجيتهما في التعامل مع أتباعهما أو بالأحرى مع المجتمع الموازي الذي يمثلانه. ولعل الزلزال الوحيد الذي ضرب هذا النموذج هو الثورة في ميدان التحرير، والمثال المذهل للتعايش بين المسلمين والمسيحين في غياب تام لدور الدولة والكنيسة والإخوان في التحكم بهذا المشهد، بل إن شباب كلا الجانبين هم ما اضطرهما للمشاركة فيه في أيامه الأولى على رغم تململهما من هذه المغامرة. فالثابت أن شباب الإخوان، كان لهم دور كبير في إقناع القيادة بالمشاركة في التظاهرات والتصعيد، وكذلك فعل الشباب المسيحي مع الكنيسة، على رغم البيانات الرسمية الصادرة عن الإخوان والكنيسة قبل 25 يناير والتي تظهر بجلاء عدم مشاركتهما في شكل رسمي، ثم التحول في الموقف بعد ذلك استجابة لضغط الشباب والشارع.

لم تقف تداعيات هذه الهزة عند صورتها الوردية في التحرير، بل بزغ متغير أكثر خطورة وهو وصول الإخوان الى السلطة ممثلة برئيس الجمهورية، وبعض المحافظين والوزراء، وتصاعدت الدعوات لقوننة وضع الجماعة، أو بمعنى آخر تفكـيك المجتمع الموازي الذي نشأ عبر هذه السنـين. وفي الوقت نفسه، برزت أصوات أخـرى إسـلامية ومسيـحية تطالب بإخضاع أموال الكنيسة للرقابة، وهو تحد لا يقل عن تحد تقنين الإخوان. وخطورة هاتين الدعـوتـين أنهما تركزان على ما هو مالي وقانوني مع إهمال ما هو اجتماعي وروحي، على رغم أهمية هذين الأخيرين ومركـزيتـهما داخل هذه المـحاضن الدينـية.

ولعل الحيرة أو الحرج هو ما يمنع قيادات الإخوان والكنيسة من التعبير بصراحة عما يعيق مثل هذه الخطوات. فمن الواضح أن الأصوات المنادية بالقوننة والرقابة تطالب بأن يخضع نظام مالي وإداري واجتماعي ذو بعد ديني روحي لنظام إداري مركزي لا يزال في طور محاولات الإصلاح خلال فترة انتقالية غير مضمونة المآلات. وعلى رغم أي شبهة فساد إداري أو مالي قد تطاول هذه الكيانات، إلا أن مزايا بقائها لدى أتباعها أكبر بكثير من النوم في عراء سياسي غير مستقر. ناهيك بالخلافات السياسية الظاهرة بين المنادين بهذه الدعوات وبين الإخوان والكنيسة، إذ أصبح الأمر سلاحاً في يد المنشقين والمختلفين مع كلا الجانبين. وتجلى تهاوي الحلول السريعة في حصول جماعة الإخوان على رخصة رسمية لتشكيل جمعية بعد أن أسست حزباً سياسياً، وبذلك تكون ردت على السؤالين القانوني والسياسي لتبقى أسئلة أخرى أكثر عمقاً وأهمية معلقة في الهواء وتثير جدلاً سياسياً لا ينتهي.

إن طرح حلول متجردة لهذه المسائل يقتضي القول إننا أمام محضنين دينيين في أصولهما الأولى، تحولا بسبب الاستجابة للمتغيرات المحيطة إلى محاضن اجتماعية ذات نظام تكافلي في الإدارة ووظيفة سياسية ليس لها تعريف في قاموس الدولة الحديثة. وهي وظيفة واضحة المعالم في وضع الإخوان وملتبسة المعالم في وضع الكنيسة، ومطالبة بأن تتخلى عن هذه الادوار الوظيفية التراكمية دفعة واحدة.

السؤال هنا اجتماعي روحي قبل أن يكون سياسياً ومالياً؛ لأن أمر القوننة والرقابة المالية يسهل الالتفاف عليه بأساليب شتى في عالم مفتوح. وبالتالي لا تكمن الإجابة عليه عند السلطة أو القضاء بقدر ما تكون عند علماء الاجتماع وعلماء الدين. فكلا الحاضنين الدينيين محصن ضد الضربات الأمنية والإعلامية، وهما أقصى أسلحة يمكن الدولة استخدامها لإرغامهما على ما لا يريدان القيام به. وهو أسلوب اتبعه عبدالناصر مع الإخوان واتبعه السادات مع البابا شنودة مع اختلاف الطريقة لاختلاف قوة التأثير بالطبع.

هناك نظرية في القانون تسمى نظرية حماية الأوضاع الظاهرة، وفحواها أن القانون ليس عصا تهديد بمقدار ما هو خادم للعدل ومراعٍ لما نشأ قبله من حقوق والتزامات. وإذا طبقنا هذه النظرية على الإخوان والكنيسة نجد أن هناك حاجة ملحّة لفترة انتقالية موازية لكلا الحاضنين لتوفيق أوضاعهما بالتعاون الطوعي منهما. فإما أن تقوى الدولة وتقدم من الإمكانات المادية والحرية العقائدية ما يغري أتباع كلا الجانبين بالركون إليها، وحينها ستجد ظهيراً شعبياً وقوة أدبية في إرغام الإخوان والكنيسة على الانضواء تحت لواء الإدارة والرقابة، أو أن يتكفل الكيانان بعمليات إصلاح ذاتي معلنة ومتصالحة مع المجتمع في سياق تصالح عام مع الماضي لبناء المستقبل وفق قواعد متفق عليها.


* صحافي مصري مقيم في لندن