أثارت تهديدات الرئيس مرسى بدعوة «الشعب» للقيام بثورة ثانية مشاعر من الدهشة بسبب صدورها من رأس الحكم، لا من المعارضة، كما أثارت موجة من التساؤلات حول طبيعة هذه الثورة ومدى التزامها بمبادئ الدستور والقانون ومؤسسات الدولة التى أقسم الرئيس على احترامها. كان الرئيس قد أكد فى بداية حكمه على أن المرحلة الانتقالية قد انتهت، داعياً المعارضة لنبذ الأساليب الثورية والالتزام بالأساليب السياسية القانونية التى تنظم المعارضة والتى تنتهى بالاحتكام لصوت الشعب من خلال صناديق الانتخاب. اختفت هذه النغمة مؤخراً لتحل محلها دعوة الرئيس لأنصاره صراحة لثورة ثانية خارج الدستور والقانون!! كانت إرهاصات تلك الثورة قد بدأت بالفعل قبل شهور فى صورة تجاهل رسمى تام لمحاصرة الإسلاميين للمحكمة الدستورية العليا وللنائب العام، ثم لمدينة الإنتاج الإعلامى ومؤخراً لمشيخة الأزهر وللكاتدرائية، وربما لوزارة الدفاع قريباً. صقور الجناح المتشدد المسيطر داخل الإخوان لا يعبرون عن فصيل سياسى يكفيه التوافق على حلول وسط مع فرقائه السياسيين، ولكنهم أصحاب مشروع «ثقافى» متكامل مناقض لمشروع «الدولة المدنية الحديثة»، وبحكم تكوينهم العقائدى؛ لا يرضى هؤلاء بأقل من «ثورة ثقافية» كاملة. ثمة تجارب تاريخية ثلاث قد تساعدنا -وتساعد الإخوان أنفسهم- على تلمس ملامح الثورة الثقافية الإسلامية المرتقبة فى مصر؛ الأولى هى تجربة وصول «الإسلاميين» للحكم فى تركيا وصراعهم مع «الدولة العميقة». الدرس الرئيسى هنا: لا داعى للقلق الشديد، فمؤسسات الدولة العميقة فى مصر أضعف بما لا يقارَن، والمسألة مسألة وقت وانتقاء للتوقيت المناسب للصدام لا أكثر. التجربة الثانية هى تجربة الثورة الإيرانية التى استبدلت نظاماً إسلامياً بنظام كان يستحضر دائماً «النموذج الغربى» وحده، واستمرت صراعاتها لسبع سنوات. استهدفت الثورة «أسلمة المجتمع» بكافة مؤسساته الثقافية والتعليمية والإعلامية والقضائية، ولا تزال أعداد المثقفين الذين قُتلوا أو اختفوا خلال سنوات الثورة الثقافية غير معروف حتى اليوم. أما التجربة الثالثة فهى تجربة «الثورة الثقافية» فى الصين التى استغرقت عشر سنوات، وبدأت بتحذيرات من الزعيم ماو تسى تونغ من اختراق «أعداء الثورة» لمؤسسات الدولة. غرقت الصين فى فوضى حرب أهلية راح ضحيتها مئات الألوف، وجرى تعذيب الملايين، حيث كانت المحاكمات الأهلية تعقد فى الشوارع والأحياء مباشرةً لتصدر الأحكام وينفذها الأهالى فوراً، بعيداً عن الدستور والقانون اللذين تم تعطيلهما تماماً. وظف «ماو» «ثورته الثقافية» لشحن الحشود الجماهيرية ضد تيارات سياسية وشخصيات بعينها فى السلطة كان يريد التخلص منها بأى ثمن لأنها كانت تحول دون انفراده بالحكم. تبقى التجربة التركية مفيدة للإخوان على مستوى التكتيك فقط، لأن النظام السياسى ومنظومة القيم التى يستهدفها حزب «الحرية والعدالة» لا ترضى الإخوان الذين يرفضون «علمانية» أردوغان «المؤمنة»، ويبدو أن الإخوان يدركون أن تركيبة المجتمع المصرى لا تحتمل «دولة دينية شمولية» بالدرجة التى سمح بها التأييد الجماهيرى الواسع للثورة الثقافية الإسلامية فى إيران، وأن عصر حقوق الإنسان الذى يعيشه العالم اليوم لم يعد يناسب حجم العنف «الثقافى» الدموى الذى عرفته التجربة الصينية. الأرجح أن الإخوان سيختارون استراتيجية «تثقيف» المجتمع المصرى ومؤسساته «إسلامياً» على نار هادئة عبر حقبة زمنية ممتدة لمدى أطول، هذا إن قُدّر لهم الاستمرار فى موقع السلطة ولم ينتقلوا لموقع الشريك فيها أو حتى موقع المعارضة فى وقت قد يكون أقرب بكثير مما يتوقعون.
|