التاريخ: نيسان ٧, ٢٠١٣
المصدر: جريدة الحياة
لهذه الأسباب خسر مرسي المعركة مع باسم يوسف - حازم الامين
لماذا يعاني الإسلاميون من انخفاض في منسوب الخيال والرشاقة وخفة الظل؟ ليس هذا السؤال من باب رشقهم بالشتائم، إنه حقاً من باب ملاحظة تعثرهم في الانخراط في موجات التجديد على مستوى الحضور والتواصل، الذي يمليه تصدّرهم مجتمعاتهم.

لقد فشلوا في المواجهة، فأن ينتصر باسم يوسف في معركة الصورة والمشهد على سلطة متشكلة من مزيج من انتخابات وإمكانات، ومن حق مستمد من دين ونص وتاريخ، فإن في الأمر خللاً. باسم يوسف صورة في نهاية المطاف. رجل يملك صورته ولا شيء غيرها. أما محمد مرسي، فهو صورته وهو سلطة ونفوذ وإمكانات هائلة. وعلى رغم ذلك انتصرت صورة الأول على صورة الثاني.

إذاً في صراع الصورة، الإسلاميون ضِعافٌ، وهذه ليست حالهم في الحرب وفي الانتخابات وفي التجارة وأعمال البناء والإغاثة. لكن الصورة أكثر تأثيراً من الأصعدة الأخرى، فالإغاثة لن تفيدهم في صنع مشهد لأنفسهم، والانتخابات ستعقبها دورة أخرى بعد أربع سنوات، والتجارة التي نجحوا فيها سواء في مصر أو تركيا، جافة وحذرة ومنكفئة وغير مغامرة، هي مربحة فقط، ومراكمة لنفس الطقوس، تكثّر رأس المال من دون أن تدفعه إلى ما بعده من أشواط واحتمالات.

ثمة عُقم في مكان ما يجب البحث عن أسبابه. لماذا خسر محمد مرسي معركة الصورة ومعركة خفة الظل، وهو المصري ابن المصري؟ لماذا عجز الإسلاميون عن إنتاج شاعر واحد، أو مؤرخ واحد؟ لماذا فشلوا في فرض نموذجهم في القيافة واللياقة وأصول المخاطبة، هم الذين يحوزون «حقاً» منحهم إياه نص سماوي؟ ألا تشعرون أن أجسامهم مقيّدة بشيء ما؟ وأنهم عاجزون عن تحريك أوراكهم ومفاصل أجسامهم مع أنهم رياضيون ويتدربون على الجيدو والكاراتيه، على ما تشير سِيرهم، وعلى ما تحثهم عليه النصوص!

في هذا الكلام تعميم من دون شك، ويجب الاعتراف بميل المرء إلى الانزلاق إليه، لكنه تعميم يُذكّرنا بأننا نسمح لأنفسنا بالانزلاق إلى ما قبل السقوط، ففي ذلك لياقة ذهنية يتيحها لنا انعتاقنا من النصوص ومن الحساب. سعة تتيح خطأ صغيراً، ذاك أن وظيفة الخطأ هنا هي دفع الخيال إلى ما بعد النص وما بعد سلطة النص.

كيف للمرء أن يكون خفيف الظل إذا كان عاجزاً عن إجراء هذا التمرين، وكيف له أن يكون فناناً أو شاعراً، وكيف له أن ينتصر على باسم يوسف؟

لكن الإسلاميين الآن سلطة، في مصر هم سلطة وفي تونس أيضاً، وفي لبنان حزب الله هو السلطة الفعلية، وفي سورية يقاتلون لمصادرة صورة الثورة هناك. إذاً نحن أمام سلطة بلا خيال! سلطة تقول إنها عادلة، لكنها لا تنفي أنها عديمة الخيال. الإسلاميون مستعدون للسجال حتى الصباح في عدالة سلطتهم، لكنهم غير معنيين في أن يثبتوا خصوبة خيالهم، ولنا أن نُسلم لهم في ما هم يدعون، وان نُدقق في معنى أن نكون في ظل سلطة بلا خيال. سلطة هذه طموحاتها، وهذه تجارتها وهذا موديلها. شيء يطمح إلى «إحياء» الماضي ليس بصفته صوراً مشتهاة ومستحيلة التحقق، إنما بصفته نكوصاً بالطموح وإرجاعاً له. عليك أيها الرجل أن لا ترسم لوحة، ففي ذلك شطط يُعرض الوجوه إلى الإمحاء، ويا أيها الشاعر لا تكتب قصيدة تتعدى فيها حدود تفعيلة النص الذي لا يُمس، فذلك من أعمال البِدع. أما الطرفة فيجب أن تكون ملتزمة حدود المقبول والمتوقع، وإلا عُدت كفراً.

إنها السلطة التي سلمنا لأصحابها بأنها «عادلة». علينا إذاً أن ننعم بهذا العدل الجاف، وأن نموت ضجراً واستسلاماً له. أن نعيش على وقع «عدل» مقرر منذ عشرات العقود. إنه العدل، على ما سمعنا عنه في كتب التراث، وعلى ما ينطوي عليه من مراتب ومناصب وسلطات. على الابن أن يحترم أباه، وعلى المرأة أن تعيش إلى جانب امرأة زوجها طالما أن الأخير يعدل، وعلى التاجر أن يكون حذراً من ربا المصارف الحديثة، وأن يكتفي بالـ «ديبت كارد»، ذاك أن الديون تُرهق الأمة. يجب أن نكون أمة بلا ديون، وأن نكتفي بما نملك وبما تحتوي حساباتنا في المصارف. أليس هذا ما فعله أردوغان في مدن الأناضول، تلك التي انتصرت على رأسمالية إسطنبول عبر عائلاتها التجارية التي استعاضت عن «الاعتماد المصرفي» بالثقة السائدة بين عائلات التجار، وبالديون الحلال؟ وهو ما نجمت عنه مُدُنٌ غنية ومستكينة وقابلة بما كُتب لها.

ثم أيها المواطنون المؤمنون، ما هي حاجتكم لأجسامكم، ولماذا تتفاوتون في أذواقكم؟ اقبلوا بما كتب لكم في ظل هذه السلطة «العادلة». لا تُراقبوا الرئيس، فثمة من يفعل ذلك عنكم. هو أصلاً يُشبهكم في امتثاله للسلطة «العادلة»، وهو لن يسقط في الإغراء الذي سقط فيه أسلافه من الرؤساء. لا شيء يُغريه في هذه الدنيا الفانية.

لهذه الأسباب انتصر باسم يوسف على الرئيس محمد مرسي في حرب الصور بين الرجلين، ذاك أن سلطة تدعي أنها لم تفسد بعد، لن يكفيها هذا الادعاء لكي تصمد في عالم لم يعد فيه مكان للسكون وللقبول وللامتثال. ثم أن هذه السلطة ستنهار عند أول لقاء مع الملذات، فهذه الأخيرة مستحيلة التحقق في متخيّلها، وما أن تصير ممكنة حتى يخفق لها القلب حتى الاختناق.

لم يبتسم الرئيس المصري للمصورين يوماً، ولنتخيل مثلاً أن الإخوان المسلمين في مصر قرروا أن يستعملوا رشاقة باسم يوسف في حربهم عليه! هم غير مُعدين لهذه المهمة على الإطلاق، ولكي ينجحوا في ذلك عليهم أن يغامروا على حدود نصوصهم وقيمهم وطقوسهم. لكي ينجحوا في معركة الصورة عليهم أن يفعلوا ذلك، وفي معركة الخيال عليهم أن يتجاوزوا جدار اليقين، وفي معركة الإبداع أن يتيحوا لوجدانهم أن يتسع لما هو أكثر من رواية واحدة.

هذا كله بعد أن نكون قد سلمنا لهم بـ «عدالة سلطتهم»، وقبلنا، تجاوزاً، بأنهم ليسوا أفسد من سلطات أسلافهم.