في الثورة السورية، لم تبادر الولايات المتحدة حتى إلى "القيادة من الخلف". لا بل استحدثت إدارة باراك أوباما دوراً جديداً لقوة عظمى: فنحن الآن شرطيو السير الذين يوجّهون تدفّق الأسلحة إلى الثوّار.
ليس المال مالنا، بل هو مال القطريين والسعوديين والليبيين. والطائرات التي تنقل الأسلحة أردنية وقطرية وسعودية. والمخاطر يتحمّلها جيران سوريا، لا سيما الأردن وتركيا ولبنان.
لدى مسؤولينا آراء حول ما يجري في سوريا، لكن لا أحد في الشرق الأوسط الكبير يستطيع أن يتكهّن بها. نريد أن يرحل بشار الأسد؛ هذا ما قاله رئيسنا في آب2011 بعد خمسة أشهر على اندلاع حرب همجية. لكن مجدداً، نلمّح من خلال الغمزات والإيماءات، إلى أن البديل من الأسد قد يكون أسوأ من طغيانه.
لا نكاد نصدر بياناً حاسماً ضد الديكتاتور حتى نرفقه على الفور بدعوة النظام الديكتاتوري والمعارضة للجلوس إلى طاولة المفاوضات. يرتكب النظام السوري جرائم كبرى، أما نحن فيتملّكنا قلق شديد من الجهاديين الذين يحتشدون في ذلك البلد. اشتكى قيادي سوري معارِض من أن طول لحى المقاتلين أهم من المجازر في نظر المسؤولين الأميركيين.
باراك أوباما رجل رابط الجأش يتكلّم لغة العقل. هذه هي الصورة التي تطبعه. لن يرضخ لإملاءات التاريخ ويستعجل التحرّك. إذا كان جورج دبليو بوش "صاحب القرارات"، فخلَفُه هو صاحب التساؤلات الذي "يتخبّط مع" القرارات.
الأرض تحترق في سوريا، هذا البلد الذي يحتل موقعاً استراتيجياً على البحر المتوسّط، مع حدوده المتفجِّرة، والذي يتداعى أمام عيوننا، أمام عينَي أوباما. ومع ذلك، بعد عامَين كاملَين على المجزرة، يستمرّ في طرح الأسئلة.
قال أوباما لمجلة "نيو ريبابليك" في كانون الثاني الماضي "في وضعٍ كالذي تشهده سوريا، عليّ أن أسأل، هل يمكننا إحداث فارق فيه؟ هل يكون للتدخّل العسكري تأثير؟ كيف يمكن أن يؤثّر في قدرتنا على دعم الجنود الذين لا يزالون ينتشرون في أفغانستان؟ ماذا ستكون تداعيات تدخّلنا على الأرض؟ هل يمكن أن يؤدّي إلى تفاقم العنف أو استعمال الأسلحة الكيميائية؟ ما هي الاحتمالات الأفضل لقيام نظام مستقر بعد الأسد؟ وكيف أقوّم سقوط عشرات آلاف القتلى في سوريا في مقابل عشرات الآلاف الذين يُقتَلون حالياً في الكونغو؟".
بعبارة أخرى، إذا تدخّل الفرسان في مكان ما، فيجب أن يتدخّلوا في كل مكان. أوباما يستنجد بالكونغو؛ على السوريين أن ينتظروا دورهم.
في الحقيقة، ليست الكونغو هي التي تؤثّر في سياسة أوباما السورية. بل إنه شبح العراق. مما لا شك فيه أن حرب العراق هي بمثابة قاعدة مرجعية راسخة بالنسبة إلى أوباما. كان، من حسن حظه، عضواً في الهيئة التشريعية في ولاية إيلينوي عندما صوّت مجلس الشيوخ الأميركي على استخدام القوة ضد صدام حسين.
كان جزء كبير من الأميركيين يشعرون بجرح عميق عند التصويت على قرار الحرب عام 2002. فقد أيّد ثلاثة من أصل أربعة أميركيين إنهاء نظام صدام حسين.
وقد تلاحم صعود أوباما في السياسة الوطنية مع خيبة الأمل الأميركية من حرب العراق. كانت مهمّته سهلة: فقد أجرى تمييزاً نافعاً من الناحية السياسية، بين "حرب الخيار" في العراق و"حرب الضرورة" في أفغانستان.
أعلن أنه ليس من الرافضين للحرب. فهو لا يعارض كل الحروب، بل فقط الحروب "الغبية". زار العراق بمفرده عندما كان مرشّحاً للرئاسة في تموز 2008. ذهب إلى هناك ورأى بأمّ العين، فترسّخت لديه القناعة التي جاء بها إلى العراق: يجب خفض نطاق الحرب من أجل أن يتمكّن الجنود من خوض قتال أوسع نطاقاً في أفغانستان. لم تكن هذه حربه، وقد وضع تصوّراً لخفض كبير للمجهود الحربي في العراق. كانت لديه أولويّاته. فبالنسبة إليه، كانت أفغانستان الجبهة الرئيسية في الحرب على الإرهاب.
بدأت الحرب على سوريا جدّياً عام 2011، أي في العام الذي كانت إدارة أوباما تستعدّ فيه للانسحاب الكامل من العراق. كان العراق المرآة المشوَّهة التي يُنظَر إلى سوريا من خلالها. كان تصدّع مذهبي عميق يفصل بين السنّة والعلويين في سوريا، فضلاً عن الانقسام الإتني بين العرب والأكراد. وكان هذا المشهد يذكّر بالعراق.
كما هو الحال في معظم الأحيان في النزاعات التاريخية المحتدمة، بالغ المسؤولون الأميركيون في قراءة الدروس العراقية. في العراق، استعجلت الولايات المتحدة شنّ الحرب. أما في سوريا، فتتوخّى الحذر، الحذر المسبّب للشلل.
إنه لأمر يستحقّ التوقّف عنده أن المغامرة الليبية التي أدّت إلى إطاحة معمر القذافي لم تشكّل نموذجاً لدور أميركي جديد في الأراضي العربية-الإسلامية. أبلت الولايات المتحدة جيداً في ذلك النزاع. فقد أُسقِط ديكتاتور رهيب، وتولّينا نحن "القيادة من الخلف". أخذ الفرنسيون والبريطانيون زمام المبادرة، وقدّمت الولايات المتحدة الدعم اللوجستي. لكن لم تكن هناك احتفالات، وقد حرص أوباما على الإيضاح بأن الأمور كادت تخرج عن السيطرة في ليبيا، وأن ذلك النزاع كان فريداً من نوعه، ولن يتكرّر.
زيارة مفاجئة
قام وزير الخارجية جون كيري بزيارة مفاجئة إلى العراق في نهاية الأسبوع الماضي، ليطلب من الحكومة العراقية التي وُلِدت بمساهمة من القوة الأميركية، الإحجام عن دعم الديكتاتور السوري. ثمة ممرٌّ من إيران إلى سوريا عبر العراق، وقد ألقت الحكومة التي يقودها الشيعة في بغداد برهاناتها في السلّة نفسها مع محور إيران-سوريا-"حزب الله". لقد رفعنا الرهانات في العراق في حين أنه لم يتبقَّ أي وجود أميركي هناك لتدعيم سلطتنا. شعار هذه الإدارة "موجة الحرب تنحسر"، لكن في سوريا والعراق والجوار الأوسع، سلطة أميركا ونفوذها هما اللذان يتراجعان يوماً بعد يوم. |