التاريخ: نيسان ١, ٢٠١٣
المصدر: جريدة الحياة
ثورات الإصلاح ... وإصلاح الثورات - محمد بن إبراهيم السعيدي
يقول ونستون تشرشل: «إن السياسي الجيد هو من يحسن التنبؤ بالمستقبل، كما يحسن تفسير ما حدث إذا أخطأت تنبؤاته».

لو طبقنا هذا التعريف على كل ممتهني السياسة في بلادنا العربية، ممارسين أو كتاباً ومحللين وإعلاميين، من خلال أحداث الأعوام الثلاثة الماضية فقط، سنجد أن السياسي العربي الجيد أندر من الكبريت الأحمر.

راجعت كثيراً مما كتبوه عند انطلاق الثورات وقبلها بقليل، فلم أجد لديهم إلا رجع الصدى لما يقوله الناس في مجالسهم ومقاهيهم، فلم يكن لهم في ما يقولون إلا فضل الكتابة، ولم يكن ثَمَّ جديد يضيفونه إلى الناس سوى التعبير عمَّا في نفوس القراء.

وتابعت كثيراً مما كتبه هؤلاء السياسيون، بمناسبة مرور عامين على الثورات، أولئك الذين كانوا فرحين بها، ودافعين باتجاهها، وساخرين ومخونين كل من توجس منها، أياً كان اتجاهه، فوجدتهم أشتاتاً متفرقين كتفرق تلك الشعوب التي زعموا يوماً ما أن الثورات وحدتها وأزالت كل ما أورثها إياه الاستبداد الطويل من تشتت وافتراق.

فمنهم من يكابر مكابرة شنيعة جداً، زاعماً أن ما يحدث في تونس ومصر وليبيا واليمن أمر طبيعي ومتوقع، وهو أثر تلقائي للزلزالين الاجتماعي والسياسي اللذين أحدثتهما ثورة الشعب ومنطق قوة الأمة وإرادتها.

وأعظم من كل ذلك أن يقول: هكذا عوّدنا التاريخ فالثورات دائماً يحدث جراءها مثل هذا الاضطراب في آثارها.

وهي «تبريرات» سمعناها وقرأناها بدءاً من الشهر الأول لكل ثورة، ثم نجدها تتكرر بعد عامين، وأرجو أن يُسَلِّم الله سبحانه ويُقِر أحوال الأمة، فلا نسمع مثل هذا الكلام بعد أربع سنوات وستٍ وثمانٍ.

ومنهم من يعزو فشل الثورات - هم لا يعبرون بفشل الثورات - إلى تولي «الإخوان» مقاليد الحكم في بلاد الثورات، وهو يدلل بذلك في نظره على انكشاف «الإخوان» أمام الشعوب على حقيقتهم، وعجز التفكير الديني عن إدارة دولة مدنية، ومنهم من يجعل الحديث في ذلك باباً لنقد ما يسميها الإسلاموية... وهلم جرا.

وفئة ثالثة، وهم المنتمون للتوجهات الإسلامية الحركية، أو المتعاطفون معها، ينسبون فشل الثورات إلى المؤامرات الخارجية التي لا تريد للإسلام أن يكون يوماً ما حاكماً على أي صقع، ضاق أم اتسع، من أصقاع المعمورة، وإلى عملاء هذه الجهات الخارجية من مرتزقة الداخل، أو المنتسبين إلى الفكر العلماني والليبرالي، أما الجهات الخارجية التي يعلقون عليها فشل الثورات، فمنهم من يجعلها عربية خليجية، ومنهم من يجعلها دولية غرب أوروبية أو أميركية.

هذه الرؤى المختلفة لنتائج الثورات تشتمل شيئاً من الحق يقع عليه عبء ترويج ما تتضمنه من الأخطاء وتزيينها في النفوس، لكن معظم الخطأ في تقديري يأتي إلى أصحاب هذه التوجهات من قِبَل رفضهم الالتفات إلى الوراء، وإعادة نقد مواقفهم من الثورات، تلك المواقف التي اقتصرت على الدفع باتجاه الثورة من دون تقديم أي محترزات، أو التنبيه إلى أية محاذير يمكن أن تنجم عنها، ومن دون أي استعداد أو ترتيب لما بعدها، كل الهم كان هو أن تؤدي الثورة إلى تنحي رئيس الدولة أو قتله.

نجحت الثورات في تحقيق مطلبها الوحيد وهو سقوط النظام، ثم وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام واقعِ ما بعد النظام، وهو واقعٌ لم يتحدثوا عنه ولم يفكروا فيه إطلاقاً، لذلك فشلوا في مواجهته، ثم لا ننفك نسمعهم يقولون: مطالب الثورة لم تتحقق بعد، مع أننا تابعنا كل تلك الثورات يوماً بيوم، ونشيداً بنشيد، وهتافاً بهتاف، وشعاراً بشعار، ولم نقرأ ولم نسمع ولم نشاهد أي مطلب للثورات سوى: «الشعب يريد إسقاط النظام»، هذه هي الإرادة الوحيدة والمطلب الفريد لكل الثورات، فعن أي مطالب للثورات يتحدثون اليوم؟

الفارق بين طموحات الثوار ومطالب الثورة:

الحديث الفارغ من كل محتوى عن ضرورة تحقيق مطالب الثورة لن يسهم سوى في زيادة الأزمات وليس في حلها، لأن التاريخ القريب، الذي لا يجهله كل من وقف في الساحات يشهد بأن الثورة لم يكن لها هدف سوى رؤوس الأنظمة، أما ما سوى ذاك من مطالب مجملة، كالعدالة، ومحاسبة المقصرين، وإعادة التنمية، ومطالب تفصيلية كنظام الحكم المقبل، وصفة دستور الدولة، ومعايير العلاقات الخارجية، كلها لم تكن مطالب للثورة وإنما كانت طموحات للثائرين، أو قل طموحات لبعضهم، وكلٌ منهم يختلف عن صاحبه في جواب سؤال: ما الذي تطمح إليه بعد الثورة؟

فالسلفي يريد دولة الشريعة، والإخواني يكتفي من الشريعة بما أحاط بالعنق، والليبرالي يريد دولة علمانية، واليساري يريد دولة يسارية، والعاطل يريد وظيفة، والعازب يريد أسرة، والعامل يريد تحسين وضعه.

كل ذلك كان طموحات الثوار ولم يكن أبداً مطالبٓ الثورة.

ومن هنا جاءت الأزمة إثر النجاح في إسقاط الأنظمة، فكل من شارك فيها، بل وكل من لم يشارك فيها، أصبح يقف أمام وسائل الإعلام، أو في ساحات التظاهر ليزعم أن طموحاته وطموحات الفصيل الذي ينتمي إليه كانت هي مطالب الثورة، والباقون لا يقرون له بهذا الزعم، فتستمر التجاذبات، والكل يريد أن يصور طموحاته وآماله على أنها هي مطالبات الثائرين الذين أقطع بأن السواد الأعظم منهم لم يخرجه سوى رغيفه ورغيف أولاده.

كم كنت أتمنى لو أن الثورات كانت لها مطالب وليست مجرد طموحات، ولو تحققت أمنيتي في ذلك الحين، أي أثناء الثورات، وعبَّر العلماء عن طموحات الجماهير العريضة واعتبروها هي مطالب الثورة، لو تم ذلك لم يكن لأحد أن يتجاوز هذه المطالب بعد انتهاء المعركة.

كتبت في بدايات الثورة التونسية داعياً إلى توجيهها، محذراً من الانسياق المجرد إليها، محذراً من الرائحة الماركسية المنبعثة من ثناياها، لكن الانبهار بالتغيير والذوبان في العقل الجمعي المندفع جعل ردات الفعل تجاه ما كتبته حينها مستهجنة ساخطة ساخرة مما كنت أنبه إليه.

وأول جواب لي عن رأيي في ثورة مصر، وهي في بداياتها، كان عن سؤال بهذا الخصوص من صحيفة «أنباؤكم» الإلكترونية، أجبت عنه بضرورة توجيه الثورة في أثنائها وعدم الاكتفاء بالدفع باتجاهها، هذا مع أنني لست أرى ما يردده الكثيرون من تلقائية الثورة، وعدم وجود أصابع مُدبِّرة لها، لكن توجيهها والاستفادة منها، وقطع الطريق أمام ما يُرادف منها وما يحاك لها، كان أمراً ممكناً لو وُجِدت الإرادة لهذا الأمر.

ومعنى توجيه الثورة آنذاك: إيجاد مطالب لها يُعلنها أهل العلمِ والأثرِ الظاهرِ في قلوب الناس، بحيث يستعصي على العملاء والوصوليين تجاوزها، وتصبح هي المشروع الذي يمكن تسميته أهداف الثورة ولا يسع أحد إنكاره.

لكن الذي حدث هو ما لا يخفى اليوم على أحد من استسلام الجميع لدهماء الناس، والذوبان في العقل الجمعي، الذي تلاشت معه الفروق بين العلماء والجهال والعقلاء والغوغاء حتى سقط النظام، ثم بدأ الناس في التفكير بمطالب الثورة، وجاء تنازع الفصائل والأحزاب والأفراد والجماعات، معبراً عن تنازعهم في ماهية أهداف ثورتهم.

من يُرد إصلاح بلاد الثورات في هذا اليوم وهو جادُُ في ما يرمي إليه فلابد له أن يرجع إلى اللحظات الأولى بعد انقضاء الثورات ليتعرف على أسباب افتراق الناس حتى يُحسِن تحسس طرائق جمعهم، أما الإعراض عن ذلك التاريخ والهيبة من نقده واعتباره صواباً محضاً بل وحقاً مقطوعاً به يُمتَحَنُ الناس عليه فلن يصل بالمفكر إلى مشروع صحيح للحل، وعندي أن التفكير بهذه الطريقة التي لا تزال، مع شديد الأسف، هي السائدة في معالجة الواقع بعد الثورات نوعٌ من الجبن أو العجز أو الانتهازية، وكل ذلك يتمثل في الخوف من الجماهير أن يُوَاجَهُوا بنقدِ ثورتهم أو العجز عن النقد المتجرد، أو استغلال عاطفة الجماهير للركوب على أكتافهم، أو كل ذلك جميعاً.

قال لي أحدهم: لا بد من الحفاظ على مكاسب الثورة، قلت له صدقت، لكن سم لي تلك المكاسب حتى نتحدث عن وسائل الحفاظ عليها، إن الحديث العام عن مكاسب الثورات من دون الخوض في تفاصيلها أحد مظاهر الهروب من مواجهة النفس التي هي إحدى العتبات الأولى للإصلاح.

على عكس خسائر الثورة التي يتحدث الجميع عنها بالتفصيل المخل والممجوج لأنه تفصيل انتقائي قتالي، لأن كل فريق لا يحفظ من خسائر الثورة إلا ما يحمله بكفيه ليرجم به الآخرين، ويلقي عليهم كل أوزار الواقع وعاهاته وموبقاته، ليرى القارئ المحايد لهذا الواقع أن الجميع مصطفون ليفرغ كل منهم حجارته في وجه الآخرين.

حين نريد الإصلاح لا يمكننا أن ننظر إلى خسائرنا نحن من الثورة وحسب، أو ننظر إليها بعيني المغالب المنافس على ما تحتويه الساحة الذي يعتقد أن أفضل ما يمكنه تقديمه هو تبرئة نفسه واتهام الآخرين.

لا يمكننا أن نصلح ما أفسدته الثورة قبل أن نعرف أن كل ما حصل من الموبقات بعدها كان ثمنها قبل أن يصبح نتيجتها.


* أستاذ الفقه وأصوله بجامعة أم القرى.