يذهب الباحثون في علم الإجتماع السياسي الى أن مفهوم الدولة بمؤسّساتها وأنظمتها ظاهرة أوروبية، لا تتلاءم مع المجتمعات العربية المسلمة، وذلك بسبب الطبيعة "العضوية" لهذه المجتمعات، وضعف التقاليد الفردية، وغياب العلمانية داخلها، ثم يضيفون أن مفهوم الجماعة - الأمة وبشكل خاص في معناه الديني الثقافي، أهم من أي مفهوم للدولة، أو للنظام السياسي.
لقد جاءت الدولة - على مايذكر نزيه الأيوبي في كتابه "تضخيم الدولة العربية، السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط" الصادر عن المنظمة العربية للترجمة (2011) بصفتها "بضاعة مستوردة" نتيجة الضغط الإستعماري، وثمرة جهد بعض الحكّام في تقليد الغرب، لذلك لم تستطع إلا في ما ندر أن تحل مكان مفاهيم الوحدة والتكامل التي امتدّت من العروة الوثقى الدينية الأخلاقية لدى الأفغاني وعبده، الى رباط لغوي - ثقافي لدى غالبية منظّري القومية العربية (زكي الأرسوزي، ميشال عفلق، ساطع الحصري)، كما لم تستطع أن تحلّ محلّ المفاهيم التي اعتبرت في حينه مصطنعة كالحدود والسكان والحقوق والأسواق، والسبب في ذلك كما يقول عبد الله العروي أن ظهور الدولة العربية ونموّها، لم يكن يوما مرتبطا بفكرة الحرية بمضمونها الغربي الذي يحمل معنى سياسيا واجتماعيا، وانما مرتبط بفكرة الحرية بمضمونها الإسلامي الذي يحمل معنى نفسيا وغيبيا. يضاف الى ذلك أن الفكر الليبرالي في الغرب ربط مفهوم الحرية بمفهوم القانون، ومن ثم بمفهوم الدولة، بينما مؤشرات الحرية ورموزها في المجتمع الإسلامي، هي في العادة إما خارج الدولة، او ضدّ الدولة كما يتبين من خلال البداوة، والقبلية، والتصوّف. إذا، ثمة إقصاء متبادل بين مفهوم الحرية، ومفهوم الدولة في المجتمع العربي الإسلامي التقليدي، فكلما اتسع مفهوم الدولة ضاقت مساحة الحرية.
كما هو معلوم أن الدولة ذات أصول غربية،هكذا الأنظمة التي تديرها وبخاصة الديموقراطية هي ذات أصول غربية، والحجّة في ذلك أن الديموقراطية خصيصة ثقافية لمنطقة جغرافية هي البلدان الأوروبية وأميركا. منطقة كانت تاريخيا قد مرّت بمراحل الإقطاع، وعصر النهضة، وعصر الإصلاح، وعصر التنوير، والثورة الفرنسية، والليبرالية، والفردانية. هذه المراحل لم تعرفها المجتمعات العربية الإسلامية كي تعرف بنتيجتها الديموقراطية. ويعلن هنا صموئيل هنتنغتون أن الإسلام والكونفوشية معاديان للديموقراطية، ويجاريه في الرأي برنارد لويس عندما يقول إن التراث الإسلامي كما وصلنا اليوم ليس ليبراليا أو ديموقراطيا.
يجاهر الأيوبي في كتابه بالقول أن المستلزمات الواجبة للتحول الديموقراطي غير متوافرة في معظم البلدان العربية، لأن مجتمعات هذه البلدان، ليست مجتمعات رأسمالية متقدّمة، وإنما هي مجتمعات تقليدية تمارس أنماط إنتاج قائمة على السيطرة، أنماطا لا تسمح بظهور طبقة أو إيديولوجيا هيمنة، تستطيع أن تضمن قيام نظام سياسي في المجتمع. ونتيجة لذلك فإن الدولة في مثل هذه المجتمعات. هي دولة "ضارية" مفترسة لأنها ضعيفة بنيويا وايديولوجيا، ويوضح الأيوبي أن سيرورات التنمية الإقتصادية في هذه البلدان التي تؤدي الى التصنيع، والى قيام بنية طبقية تفسح في المجال أمام ظهور الديموقراطية فشلت في تحقيق أهدافها، كما فشلت سيرورات التنمية في مجال النفط لأنها لم تقم على التصنيع، وإنما على الإفادة من منتوجه.
إن الإعتماد على عائدات النفط يؤدّي الى نشوء "دولة ريعية" ذات صلاحيات ضريبية وتنظيمية وتوزيعية ضعيفة، تبدو على السطح قوية ومستقلة استقلالاً ذاتياً، لكنها في الحقيقة غير قادرة على أن تلعب بشكل فعال دور الوسيط والحكم بين شتى المصالح التي تنشاْ داخل المجتمع.
إن محاجات التنمية التقليدية تنظر الى التطور الإجتماعي الإقتصادي بصفته يؤدّي الى نشوء عدد من الفئات القوية داخل صفوف البورجوازية تتحدّى النخب التقليدية الحاكمة، للحصول على نظام سياسي أكثر ديمقراطية، أما منظرو النظام العالمي والتبعية فيحاججون بأن هذه الفئات لاتلعب الدور نفسه في البلدان البعيدة عن المركز كالدور الذي تلعبه في البلدان المركزية، أي الغرب، لأنها أكثر تبعية وانكشافا للمؤثرات الخارجية في العالم. وقد يفسّر هذا جزئيا على الأقل السبب الذي لم يجعل الديمقراطية تنتشر في العالم العربي إلاّ في وقت قريب جدّا مفضّلا عليها النزعة القومية والنمو الإقتصادي والإشتراكية.
إن الدمقرطة مهما صغر حجمها، وقلّ المطالبون بتحقيقها، لم تظهر في العالم العربي إلاّنتيجة لعاملين أثنين: الأزمة المالية للدولة، والعولمة اللتين حملتا الحكّام العرب على القبول بنوع من المبادرات الديموقراطية التي وضعتها (وكالة الولايات المتحدة للمعونة الدولية "إيساد”) التي تشدّد بدرجة أكبر على قطاع الأعمال الصغيرة وعلى المقاولات والخصصة، بدلا من التشديد على التمثيل الديموقراطي، يضاف الى ذلك أن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، لم تكن هي الأخرى تاريخيا مؤيدّة لانتشار الديموقراطية. ففي إيران في العام 1951، وفي الأردن في العام 1957 اصطفّت الولايات المتحدة مع الجانب المعادي للقوى الديموقراطية لمصلحة عاهلين مستبدّين إنما صديقان، وفي أعقاب أزمة الخليج في 1990/1991 لم تقف الى جانب القوى الديموقراطية في العراق، وإنما مع القوى الإستبدادية في الكويت والسعودية. وفوق هذا وذاك، فإن سياستها، وسياسة الغرب الأوروبي في مجال حقوق الإنسان تتسم بانتقائية شديدة.
إذا كان للحكّم العرب أن يفسرّوا الوضع العالمي بأنه يعني أن ما يحدث الآن هو تطوّر رأسمالي أو الرسملة لا الدمقرطة فإن الأمر سيؤول بهم الى اختبار الديموقراطية بحكم غياب النقيض، أو اللبرلة السياسية التي ليست نظاما نابعا من تجارب المجتمعات العربية في بحثها عن الحرية والعدالة، وإنما هي عائدة الى ضغوطات العولمة التي تفرض على الحكومات العربية إيجاد نوع من "التكيّف" المطلوب، إما من خلال التشاور والتفاوض مع بعض المجموعات الناشطة كالنقابات، وإما محاورة الأحزاب السياسية ذات التوجه الليبرالي الداعي الى "الخصصة" وتكوين سوق اقتصادية حرّة. وكما يستطيع المرء أن يلاحظ إن الإنتقال الى الخصصة قد لا يكون من التخطيط الى السوق، بل من التخطيط الى العشيرة. بمعنى أن الحكومات العربية التي تبيع بعض قطاعاتها الإنتاجية تعمل بكل وسعها أن يكون هذا البيع لمصلحة الأنسباء والأقرباء.
يعتقد بعض الحكام العرب على ما يذكر الأيوبي أن التلبّس بمظهر اللبرلة السياسية من شأنه أن يشكّل ضمانا أكبر للمستثمرين والحكومات الغربية المانحة للمساعدات، ويعطي انطباعا بأن دخولهم مجال الخصصة يعني دخولهم الى رحاب الديموقرطية، ولكن مسثمري الخارج ومتعهدي الداخل يشرعون في شق طريق الى داخل جهاز الدولة، وإقامة مجموعات ضغط لا علاقة لها بالديموقراطية لأنها لا تنشىء تمييزا بين الخاص والعام، كما هو الحال في الدول الديموقراطية، حيث المجالات مفتوحة لمشاركة الطبقات الإجتماعية والفئات المهنية والأحزاب فيها، وإنما تنشىء لبرلة إقتصادية تمتصّ مؤسسات الدولة وتحوّلها الى إقطاعات خاصة باصحاب المال، وبذلك لا تنشىء لبرلة سياسية تؤدّي الى الديموقراطية، وإنما تؤدّي الى الحفاظ على الأنظمة السلطوية والشعبوية التي تختبئ وراء الخصصة للتخفيف من اللوم الذي يكال لها في حلّ المشاكل السياسية والإقتصادية. يعترف الأيوبي في نهاية الأمر أن بعض الأنظة العربية يلجأ لغرض المظاهر الى "ديموقراطية تجميلية" ظنّا منها أنها ستستثيرإعجاب الدول الغربية العظمى، وبالتالي ستزيد الأخيرة من استثماراتها و مساعداتها، وقد تمّ التعبير عن هذا الإعتبار في البرازيل والبرتغال في القرن التاسع عشر بالقول "من أجل أن يراها الأنكليز" أما البديل المعاصر لهذا الإعتبار فهو "من أجل أن يراها اليانكيز".
يخلص الأيوبي في معالجته لموضوع الديموقراطية في الشرق الأوسط وبخاصة في العالم العربي الى موقف مفاده أن على المرء ألاّيفكّر بلغة ثنائية: الديكتاتورية والديمقراطية بل في عملية اللبرلة والتعدّدية، وشتّى الظلال التي قد توجد على امتداد السلسلة المتصلة بين النموذجين المثاليين.
لن يغني هذا الكلام عن كتاب الأيوبي دون قراءة كتابه عن تضخيم الدولة العربية، السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط، الذي استغرقت كتابته كما يقول صاحب الكتاب عشر سنوات، وستمئة مصدر ومرجع، وتسعمئة واثنين وسبعين صفحة.كتاب غني بطروحاته واستنتاجاته، موضوعي في نهجه ومقارباته. كتاب فيه جهد الأكاديمي الذي تحرّر من عدد كبير من الدوغمائيات، وفيه غنى الكاتب - الباحث الذي هضم النظريات الغربية والعربية حول نشوء الدولة وتركّز مؤسّساتها وانطلاق أنظمتها في الغرب كما في الشرق، فأخرجها في كتاب جدير بالاحترام.
|