كان كثر يظنّون أن العقيد معمّر القذاقي صار أقرب الى الدكتاتور المهرّج منه الى الدكتاتور الدموي، منذ أن استتبّ له الحكم بعد أن نجا من أكثر من انتفاضة عسكرية وقبلية في الداخل، وبعد أن تصالح مع دول الغرب الكبرى واستثمر بمليارات الدولارات فيها ودفع عشرات المليارات الأخرى لمصانعها وحكوماتها شراءً لأسلحة ومنشآت وتعويضاً عن جرائم تفجير طائرات وحانات سبق وارتكبها نظامه... كما كان كثر من العرب قد ظنّوا أنهم صاروا بمنأى عن خطابات القذافي وعن حفلات توزيع نسخ كتابه الأخضر وما تحويه من هلوسات وترّهات بعد أن أعلن يأسه من العرب واستدارته نحو أفريقيا وشعوبها.
واكتفى الجميع بمتابعة الرجل - الفضيحة في تنقّله بين المدن التي يزورها ناصباً خيمه وعارضاً أزياءه وتصفيقات شعره وهذيانه وثروات شعبه على حكّامها. لكن كل هذا تغيّر منذ أيام، مع اندلاع انتفاضة شعبية ضد حكمه البائس. وعاد المهرّج الفاسد والمفسد الى صورته الدموية القديمة يقود وأبناؤه عصابات وميليشيات إرهاب خطفت بنيرانها أرواح المئات من مواطني ليبيا حتى الآن، وخسرت رغم ذلك السيطرة على أكثر أرجاء البلاد.
وإن كان في التغيّر هذا وفي "العودة الى الأصول" ما فاجأ كُثراً نتيجة عزلة ليبيا وانقطاعها عن العالم وصعوبة فهم تحوّلات نظامها وعلاقات قبائلها وسبل معاش أبنائها، فإن المفاجأة الأكبر، هي في الصمت الدولي حيال تطوّرات الأوضاع فيها وازدياد المجازر والجرائم التي تُرتكب ضد أهلها.
صمتٌ لم تحدّ من فضائحيّته بعض البيانات الأوروبية والأميركية الخجولة التي بدأت تظهر داعية الى "وقف العنف واحترام إرادة الناس"، وكأنها في ذلك ستُثني عن القتل نظاماً قال إبن زعيمه إن أنهار الدماء ستسيل في "جماهيريّته" وإن حرباً ضروساً ستُخاض ضد المتظاهرين إن لم يكفّوا عن احتجاجهم...
لكن الصمت كما التهديد بالدم وإسالته لن تؤجّل سوى لأيام أو أسابيع اندثار النظام وانهيار الكابوس. ذلك أن الخوف زال والمدّ الغاضب لن يتوقّف قبل جرف قصور العقيد ومضاربه. عندها، سيحتفل الليبيون بميلادهم الجديد، وسيرسم الصبيان والبنات وروداً ولُعباً فوق ما تبقى من صفحات "الكتب الخضراء" فيغطّون بألوانهم الجميلة دمامة الحبر القديم وبشاعة أسطره...
|