التاريخ: آذار ١٨, ٢٠١٣
المصدر: جريدة الحياة
عامان... وخيال طِفلي شرير لرجل الحرب هناك وهنا - حازم الامين
لم نقترب يوماً من حدث بمقدار اقترابنا من الحدث السوري اليوم. فالحدث ليس هناك، إنه هنا، أو ربما سورية ليست هناك، فهي متفشية في أنحاء كثيرة حولنا، بحيث صار من الصعب القول إن الحدث سوري بالكامل، فهو منكَّه بروائح وألوان من الأردن ولبنان وتركيا والعراق. فتلك السيدة من داريا التي اعتقلها جيش النظام، كانت بالأمس هنا في بيروت مع أطفالها الثلاثة، وما صورتها المنتشرة على صفحات الناشطين على «فايسبوك» سوى صورة السيدة التي أمضينا معها يوماً طويلاً، كانت فيه مُصغية بدل أن نكون نحن المصغين. والطفل حمزة الخطيب، أيقونة الثورة وصورتها الأولى، بدل أن يكون بعيداً كما يليق بالأيقونة أن تكون، ها هي عائلته في عمان تقول إن حمزة ليس أيقونة، إنه مجرد طفل ضحية خلَّف مقتله حزناً وألماً على نحو ما يُخلف مقتل الأطفال عند أهلهم. والمخرج الشاب باسل شحادة الذي قتل أثناء تصويره الحرب على حمص، ما زالت أفلامه تُنتج وأصدقاؤه الذين ظهروا إلى جانبه في اللقطات الأخيرة يقيمون في مناطق محددة ومعروفة، ولا شيء في حياتهم خافٍ على أحد.
 
ليست حرباً أو ثورة على ما يحلو لكثيرين أن ينقسموا في وصفها، إنها سورية وقد انكشفت أمامنا. سورية القريبة جداً منا، ليس لأنها تبعد عن بيروت أقل من مئة كيلومتر وعن عمان ضعف ذلك، وعن تركيا مسافة عين، إنما لأن سورية لم تكن يوماً سورية فقط. موسيقاها كانت امتداداً لشيء أبعد منها، وأحزابها مقيمة في عواصم الجوار، ومطبخها تسلل إلى مطابخنا واشتبك معها فاختلس منها واختلست منه، وتجارها أرسلوا نقودهم خفية إلى مصارفنا. وها هي مأساتها تقيم اليوم بين ظهرانينا، فلا نميزها عن مأساتنا.
 
الحدث لكي يكون حدثاً يجب أن نتمكن من الوقوف على مسافة منه. لكي نراه حدثاً، عليه أن يكون مستقلاً عنا. ما يجري في سورية اليوم ليس حدثاً، وهو لهذا السبب لا يصدمنا على رغم هوله. صحيح أننا لا نسمع من بيروت أصوات المدافع في دمشق، لكننا لشدة ما غرقنا في الوقائع الدمشقية صرنا نتخيل للأصوات صوراً، فانتظمت الصور المتعاقبة في أشرطة أقرب إلى الهلوسة البصرية في أذهاننا. الجندي المتعب على الحاجز في وسط دمشق الذي أخبرتنا عنه صديقتنا، صار الجندي السوري الوحيد في مخيلتنا، وجارها الشبيح الذي لا نعرف وجهه صار يخيفنا في بيروت. وحين نقرأ في أسفل الشاشة خبراً عن انطلاق صاروخ «سكود» من ريف دمشق متجهاً إلى شمال سورية، نصفن متخيلين خط سيره الطويل. صاروخ عملاق متوجه من دمشق إلى الرقة سالكاً معابر جوية بين حمص وحماة وحلب، وقاطعاً مسافة في البر السوري ومستقراً في قلب مدينة فقيرة ومهملة، محدثاً فيها غباراً كثيفاً، وقاتلاً عشرة أشخاص فقط، كانوا نائمين، ولم يشعروا بما شعر به أهل دمشق حين انطلق الصاروخ من ريفهم.
 
ثمة شيء طفلي يجري في سورية على رغم دمويته. صاروخ الـ «سكود» المُدمّر وعابر الحدود والدول، والذي أطلقه صدام حسين من فوق ثلاث دول ليستقر في إسرائيل، هو في سورية صاروخ داخلي، يُشبه الرحلات الداخلية لخطوط الطيران! في ذلك خيال طفلي شرير. صاروخ عملاق وهائل يعبر من فوق المدن ومن بينها فلا يوقظ أهلها. ثمة شيء في حجمه وفعله غير منسجم مع أفعال الناس وأحجامهم. يشبه هذا الأمر رسوم الأطفال غير المنسجمة في أحجامها. رأس الرجل أضخم من جسمه في رسومهم، والمنزل أضيق من حجم الهرة النائمة فيه. أليس في صورة الرئيس شيء من هذا الاختلال؟
 
وسورية هذه، الحرب فيها تُشبه أيضاً حكايات الأطفال، صحيح أن القتلى في هذه الحكايات هم قتلى فعليون، ولـ «الباد غايز» وجوه القتلة القذرين، لكن عناصر الحكايات لشدة توافرها وبداهتها تفقد شيئاً من واقعيتها. فهل صحيح أن تلك الجثة لهذا الرجل الحي الذي كان بالأمس هنا، وهل صحيح أن صاروخ الـ «سكود» أحدث كل هذا الدمار الذي نراه؟ حتى «جبهة النصرة»، تلك التي يتحدثون عنها بصفتها الشيطان الجديد الوافد إلى سورية انضمت إلى أدب الأطفال الدموي، فها هم أهل قرية في ريف حماة يقررون إزالة حاجز لجيش النظام على مدخل بلدتهم، وبما أن «النصرة» لا تقيم بينهم فإن عناصر الحاجز استعصوا عليهم، إلى أن ابتكر رجل من البلدة وسيلة هجوم جديدة: أحضر الرجل أعلام «النصرة» وحمّلها لرجال القرية أثناء الهجوم، وما إن رأى جنود الحاجز هذه الأعلام حتى ولّوا مدبرين. في هذه الحكاية، الخيالية ولكن الصحيحة، ما يُقارب الأربعين قتيلاً من كلا الطرفين. وفي حكاية أخرى رواها رجل فرنسي من منظمة «أطباء بلا حدود» يعمل في سورية، أنه كان يُمازح زميلاً حول موضوع تعدد كتائب «الجيش الحر»، قائلاً إنه سيقترح على منظمته تأسيس كتيبة خاصة بها، فأجابه الزميل إن شباناً في إدلب أسسوا فعلاً كتيبة سمّوها «الكتيبة الإسعافية» وسعوا إلى أن تتبناها المنظمة، وأرسلوا صور شهداء لهم سقطوا أثناء القتال.
 
ليس هذا اقتراباً من الحدث في سورية، إنه هذيان المرء الذي يعيش في الحدث من دون أن يسمع ضجيجه المباشر. القذيفة حين تسقط على مبنى في حي في دمشق، يمتص دويها الحدث ويحيله صوتاً وهلعاً ودماً، لكن القذيفة ذاتها تصل إلينا باردة مكتومة الصوت، فيتسرب القتلى إلى وجداننا أرقاماً ووجوهاً حية وحكايات. لا نُفجع بهم، ذاك أننا لم نسمع دوي الانفجار، لكن ناس الحدث الذين نعرفهم والذين قتلوا، يصيرون قتلى، ونتحول مع تحولهم، إلى أصدقاء القتلى، بعد أن كنا أصدقاء الأحياء.
 
السيدة المعتقلة من داريا، صديقتنا، وصورتها اليوم على صفحاتنا على «فايسبوك» تستدعي في أذهاننا صور أطفالها ينتظرون مصير أمهم. قبل ذلك كانت تأتي بأطفالها ليلهوا مع أطفالنا، وكانت كما نحن أماً حرة لهؤلاء الأطفال.
 
هل تُدركون كم نحن قريبون مما يجري هناك في سورية؟