التاريخ: آذار ١٢, ٢٠١٣
الكاتب:
المصدر: nowlebanon.com
 
عن هوغو شافيز
رحل هوغو شافيز بعد أشهر من انتخابه لولاية ثالثة في فنزويلا. وأثار موته، كما أثارت ولايتاه الرئاسيّتان (1999 – 2012) وقبلها انقلابه العسكري الفاشل (1992)، الكثير من الكلام هجاءً أو مديحاً.
 الأسطر التالية هي محاولة لعرض خمس مسائل ارتبطت بحكمه وبميراثه.
 
المسألة الأولى هي الاجتماعية الاقتصادية، حيث نجح عهد شافيز في أمر وأخفق في أمور. نجح في تقليص معاناة الشرائح الأكثر فقراً في فنزويلا من خلال مضاعفة الانفاق على قطاعَي الصحة والتعليم واستحداث موازنات دعم إسكاني وغذائي. فتقلّصت تدريجياً نسبة الفقراء من 51 في المئة عام 1998 الى حوالي 29 في المئة عام 2011. وهذا ما أمّن له قاعدة شعبية إنتخابية جدّدت له مرّتين. لكنّه أخفق في لجم التضخّم وما له من تداعيات اقتصادية، لتصبح بلاده الأسوأ عالمياً على هذا الصعيد (بلغت نسبة التضخّم حوالي 29 في المئة عام 2011 بعد أن كانت 25 في المئة عام 1999).
 
 
 
وتراجعت في السنوات الثلاث الأخيرة العملة الوطنية "البوليفار" (أو "البوليفار القوي" كما أسمتها تعديلات أُدخِلت على قيمتها الشرائية عام 2008) من 2,15 الى 6,3 للدولار الواحد. وأخفقت الحكومات الشافيزية في تطوير الصناعة والزراعة الوطنيّتين، ممّا حدّ من فرص التشغيل (ولو أن نسبة البطالة تراجعت من 12 الى 8 في المئة نتيجة نموّ القطاع العام وتزايد بعض خدماته). وظلّت فنزويلا تماماً كما كانت قبل استلام شافيز للسلطة شديدة التبعية للواردات من السلع الاجنبية، بما فيها الأغذية. وتُعدّ الولايات المتحدة الأميركية شريكها التجاري الأبرز.
 
المسألة الثانية، ربطاً بالأولى، هي المسألة النفطية. ويصحّ القول هنا إن سبب النجاح (النسبي) للسياسات الصحية والتعليمية والإسكانية وبرامج مكافحة الفقر التي نفّذها شافيز اعتمد بالكامل على الريع النفطي. فالصادرات النفطية شكّلت أكثر من 90 في المئة من إجمالي الصادرات الفنزويلية في العقد الأخير. وهذا يحيلنا الى كون الشافيزية الاجتماعية مرهونة بأسعار النفط، يؤدّي أي تراجع للأخيرة الى تقلّص قدرتها على التوزيع والانفاق وانهياراً لسلّم أولويّاتها (مع الإشارة الى أن فنزويلا شافيز ظلّت طيلة السنوات الثلاث عشرة المنصرمة رابع مصدّر نفط للولايات المتّحدة، خلف كندا والمكسيك والسعودية).
 
المسألة الثالثة هي المتّصلة بالديمقراطية والحرّيات، حيث المؤشّرات سلبية. فشافيز متّهم بسجن عدد من المعارضين السياسيين والناشطين الحقوقيين، ومتّهم أيضاً بالتضييق على الأحزاب، وهو الآتي أصلاً من الجيش (والمنخرط في الحياة السياسية المدنية وانتخاباتها بعد فشل انقلابه). وهو ردّ على امتلاك السياسيين والكارتيلات الفنزويلية المناوئة له وسائل إعلام توظّفها ضدّه بالحدّ من موجات بثّ بعضها، وبتحويل الإعلام العام الى إعلام شخصي يروّج لآرائه ومواقفه ويهاجم خصومه. كما أنه استصدر تشريعات تُضعف منظمات حقوق الانسان وتحاصرها مالياً، بالإضافة الى أنه تقدّم بطلب تعديل دستوري عام 2009 (أُقِرّ في استفتاء) يُلغي حصر الرئاسة بولايتين، جاعلاً إياها بلا حدود. وهذا ما سمح له في أواخر العام 2012 بالترشّح والفوز مرّة ثالثة، بعد أن كان قد رفع مدة الولاية الرئاسية الواحدة من أربع الى ست سنوات... كلّ ذلك، يُبعد الرجل عن الديمقراطية واحترامها ولو أنه لا يجعله دكتاتوراً (إذ ما زالت الانتخابات مفتوحة والتعدّدية السياسية قائمة). وقد يكون التوصيف الأدق له هو "التسلّط" مع سلوكيّات فيها مزيج من الشعبويّة و"العسكريتاريا".
 
المسألة الرابعة هي المتعلّقة بالأمن ومستويات الجريمة، وهي مسألة خطيرة في فنزويلا سابقة على حكم شافيز ومظاهرها منتشرة في كامل القارة اللاتينية. لكن عهدَي الرئيس الراحل شهدا تفاقماً خطيراً في معدّلاتها (تضاعفت الجرائم مرّتين إن قورنت أرقام ـ2011 بأرقام 1998). واحتلّت فنزويلا العام الفائت المرتبة الأولى في أميركا اللاتينية لجهة "انتشار الجريمة"، ولا يحلّ أمامها إن قورنت بأميركا الوسطى سوى السلفادور. ويعزو مراقبون الأمر الى تراجعٍ أصاب القضاء والى انتشار واسع للأسلحة النارية نتيجة تقدّم تجارتها واستفادة التجّار من الفساد المتعاظم في الشرطة. وهذا أدّى الى إضعاف الثقة بالقانون ومؤسّساته، وحال الى الآن دون تطوّر القطاع السياحي، وكرّس قوّة المافيات وممارسات "تصفية الحسابات".
 
أما المسألة الخامسة، فهي ذات صلة بسياسات كاراكاس الخارجية وبالمقاربة الشافيزية لها. ويمكن القول هنا إن شافيز اعتمد "العداء لأميركا" (رغم متانة العلاقات التجارية والنفطية بها!) عنواناً لمواقفه. وترافق صعودُه وتبلورُ خطابه تجاه واشنطن مع صعود لتيارات يسارية في أميركا اللاتينية تعاضدت لأسباب عديدة، منها نتائج الإفقار المُمنهج الذي تسبّبت به سياسات مالية دولية وممارسات فساد "وطنية" في أكثر من بلد، ومنها السأم من النخب التي هيمنت لعقود (وطبقيّة توجّهاتها)، ومنها تحسّن الأداء الانتخابي في القارة الأميركية بعد حقبة السبعينات والثمانينات المظلمة، وهذا ما أتاح لناخبين مهمّشين تاريخياً المشاركة في السنوات الماضية وبدّل تالياً من السوسيولوجيا الانتخابية (ومثال الهنود، السكان الأصليين، في معظم دول "الأنديس" دليل على تقدّم الناخبين المهمّشين). بهذا المعنى، لم يمثّل شافيز استنهاضاً للقوى اليسارية في أميركا اللاتينية، بل ترافق صعوده مع صعودها. لكن دعمه لبعضها وهو في موقع السلطة أفادها بلا شك لتحسين مواقعها.
 
أما مواقفه من الشرق الأوسط، فكانت بمجملها – باستثناء دعم الحقوق الفلسطينية – شديدة السوء، مؤيّدة لأنظمة مستبدّة ومتعامِلة مع المنطقة من خلالها. فمن "الصداقة" مع القذافي الى "الدعم" للأسد مروراً "بالحبّ" لأحمدي نجاد، التصق الرئيس الفنزويلي برؤساء يُشهد لهم بالجنون والإجرام أو بالتهريج وتزوير الانتخابات. والموقف الشافيزي منهم جعل من صاحبه محدود الشعبية في بلادهم، مُقارَناً بهم، في حين مدّه شتم الامبريالية ومظهره "الثوري" بشعبية (قد تكون واسعة) في بلاد أُخرى...
 
في المحصّلة، يمكن النظر اليوم الى استمرار الشافيزية كحالة شعبية فنزويلية بعد رحيل صاحبها انطلاقاً من استمرار كراهيتين: كراهية الكارتيلات وقوى اليمين الفنزويلي التي لم تكترث لفقر فئات واسعة من الشعب (والخشية من عودتها)، وكراهية سياسة واشنطن في أميركا اللاتينية التي قامت على دعم أنظمة فاسدة ذات قواعد إجتماعية ضيّقة مقابل مواجهتها اليسار والتمدّد الشيوعي خلال الحرب الباردة. وفي الحُكم، ييدو الميراث الشافيزي محصوراً بتسلّط سياسي (ولو أنه لم يلغِ الخصوم) معطوف على توقٍ للعدالة الاجتماعية لم تُعِن على ملامسة ملامحها سوى براميل النفط في لحظة ارتفاع أسعار قد لا يسمح تراجعها باستكمال الملامح إياها. هذا إن لم يلتهمها التضخّم وتدهور العملة الوطنية قبل ذلك...