| | التاريخ: آذار ١٠, ٢٠١٣ | المصدر: ملحق النهار الثقافي | | نهاية الاجتماع اللبناني: انسوا "العيش المشترك" - روجيه عوطة | لا أسف على فقدان "العيش المشترك" في لبنان. إذ ليس للمرء أن يتأسف على خسارة موضوعٍ مجهول منه. فاللبنانيون لم يتعرّفوا يوماً إلى اجتماعٍ خارج قيدهم الطائفي، بسبب الإيديولوجيا الدولتية، التي عمّمتها السلطات على اجتماعهم، ودفعتهم إلى التكتل وراء الطوائف. وهم لا يتقدّمون نحو أيّ رابط حديث، إلاّ انطلاقاً من هويتهم الإيديولوجية، ولا يتوجه البعض منهم إلى البعض الآخر إلاّ من نقطة الانطلاق ذاتها. هل هذا يعني انتهاء الاجتماع اللبناني تحت سقف "العيش المشترك"؟
تستطيع الطائفية أن تحفر طريقاً واحداً أوحد، هو طريق الصراع. وهي تستطيع أن توظّف قوتها في بؤرةٍ واحدة، هي بؤرة الشروخ والانقسامات والمعارك والحروب. استفهامٌ من مثل "أين سيموت المرء؟" غير مهمّ البتة في لبنان، ولاسيما أن تحديد الطريق الطائفية أهمّ من وجهتها. هذا لا يعني أن سؤال "أين سيحيا المرء؟"، على قدر كبير من الأهمية في ظل السيستام اللبناني. فعندما ينطلق اللبنانيون من طائفيّتهم للقاء الآخرين، المختلفين هوياتياً، تأسرهم نقطة الانطلاق. فهي تتحكم بهم في الممارسات اليومية، ولاسيما الاجتماعية منها، كما لو أنها ذاكرتهم الجمعية، التي لا يستطيع المرء إلاّ أن يسترجعها طقسياً كي يستمر على قيد الحضور. والحال، أن الأسر الطائفي هذا، يمنع اللبنانيين من الحياة واقعياً، فيحدّد مكانهم، ويقلّص زمنهم، ويعيّن مصائرهم ومآل وجودهم قبل أن يمارسوه. على إثر القبض الايديولوجي عليهم، يصطدم اللبنانيون بالبداية المستحيلة، التي يعبّر عنها سؤال "أين سيحيا المرء؟"، ويصطدمون بالنهاية المتروكة للصراع، التي يختصرها استفهام "أين سيموت؟".
مع مَن تعيشون؟
تعمد السلطات إلى تكرار سؤالٍ هاجسيّ، هو "مع مَن ستعيشون؟". هذا الاستفهام تترجمه مقولة "العيش المشترك"، حيث تظهر السلطة كأنها طرف ملائكيّ في الصراع السياسي. فهي تصوّر نفسها حريصة على الانصهار في المجتمع، والتعامل مع أفراده كمواطنين، بمعزل عن جماعاتهم. غير أن الاشتراك في العيش، على الطريقة اللبنانية، يؤدي فحسب إلى تكريس الصراع، وترسيخ علاقات القوة التي ينطوي عليها. فـ"العيش المشترك" ليس شعاراً ملائكياً، يُراد منه إخراج اللبنانيين من معتقلاتهم الطائفية المقفول عليها. إذ لا يصلح سوى للتقريب الخرافي بين الطوائف- السجون، وتصوير حركتها هذه كأنها تمهيد للدخول في طور من الروابط الحديثة.
لقد جرى التواطؤ الرسمي على التقارب الهوياتي في لبنان عام 1943، بحيث تألفت العلاقات الطوائفية في سياق دولتي، شُيّد قانونياً ومؤسساتياً. إلا أن التضارب بين الروابط التقليدية والحديثة، أدى إلى الكثير من التصدعات في مفهوم "الدولة"، وبناها الاقتصادية والسياسية. وهذا ما استطاعت الايديولوجيا السلطوية أن تستوعبه في أغلب الأحيان. فهي تنطوي على التضارب والتصدع من جهة، وهي تُوازن بين الواقع المكتوم وصورته الطوائفية من جهة أخرى. يساعدها على ذلك، أن الجماعات اللبنانية ما كانت يوماً مجتمعةً في مكان عام، ومن المستحيل أن تقدر على الاجتماع بعيداً من هوياتها الايديولوجية، تالياً، من صراعاتها.
خرجت مقولة "العيش المشترك" من صلب "الميثاق الوطني"، فكانت الأكثر تعبيراً عن إيديولوجيته، التي تدعو إلى التوافق والتساوي بين الجماعتين المسيحية والإسلامية. وكشفت هذه المقولة عن "أزمةٍ إيجابيةٍ"، سرعان ما ولّدت فاجعة دموية في البلد. فصحيح أن "العيش المشترك" كان مفصلاً من مفاصل خطاب النظام السياسي، غير أنه كان بمثابة مفصل متكلّس يزداد تكلساً كلما جرى التكلم به أو التكتم عليه. من المؤكد أن هذه الحال ليست إعاقةً خطابيةً، بل هي ظرف ميثاقي. يستطيع السيستام، التوليف بين المتناقضات داخل خطابه، لكنه، في بعض الأحيان، يفلتها من مفاصله الايديولوجية واللفظية كي تنتقل إلى الواقع، أو بالأحرى إلى فضاء غير خطابي. هناك، يستطيع التوليف بين الجماعات بالرصاص والدم، قبل أن يرتدّ التوافق الفجائعي إلى التسوية والتهادن.
لفظ الخرافة
بعد خمسة عشر عاماً من التقاتل والتذابح، بدا أن الحروب اللبنانية، خلال تلك الفترة، كانت نوعاً من أنواع الإجتماع، التي تواطأ اللبنانيون عليها عسكرياً. بعد توقيع اتفاق الطائف، تحوّل الاجتماع الحربي إلى اجتماع تهادنيّ، من دون أن تتنازل الجماعات الطائفية عن موقعها داخله، بل هي كانت ركيزته الوحيدة. طغت سلطاتها على مؤسسات "العيش المشترك"، التي تطلَّع "الميثاق" إلى بنائها في السياسة، كما استولت على المرافق الاقتصادية، وتحكّمت بالقوانين والمعايير الاجتماعية. وما إن بدأت مرحلة غير عسكرية من مراحل الاجتماع اللبناني، حتى انقلب "العيش المشترك" من مقولة إيديولوجية إلى خرافة. فالسنوات الدموية، التي مرَّت بها البلاد، كشفت أن الجماعات الطائفية لا تستطيع الانصهار في مجتمع واحد، ولا أن تتواطأ على مشترك ما. لكنها من ناحية أخرى، لا يمكنها أن تطيح الإجتماع الخطابي، وإعلان الانفصال النهائي. لذا، تقرر العودة إلى اللفظ الايديولوجي نفسه، أي "العيش المشترك"، علماً أن رجوعها إليه لا يعني المحافظة على دلالته الأصلية. عاد اللبنانيون إلى "العيش المشترك" كأنهم يكفرون عن ذنوب حروبهم. في الوقت نفسه، كانت تلك المقولة هي الماضي الذي تبكيه الجماعات، كي تحافظ على موقعها، وتمهد لجولة سياسية جديدة. يصبح "المشترك" مجرد خرافة، يسترجعها اللبنانيون رغم معرفتهم المكتومة بأنها اعتقاد واهٍ، وسردية باطلة. فهم لم يكونوا مجتمعاً واحداً قبل الحرب، لينفرط بتدخلٍ من الخارج، ولا كانوا متواطئين على مشترك اجتماعي، ليخرّبه الآخرون. فـ"العيش المشترك"، كلفظ لغوي، مركب غير اجتماعي، إذ ينطوي على "عيشٍ" تشترك الجماعات في مزاولته، من دون تحديد العلاقة بينها، أكانت اجتماعية أم حربية، أم الإثنتين معاً.
تخلّت السلطات عن لغتها العسكرية التي قرأت فيه الخطاب الميثاقي، واسترجعت لغة التهادن والتصالح كي تدخل إلى مرحلة جديدة، وذلك من دون التخلي عن الخطاب المقروء سابقاً، والذي تغيّر، بعد الحرب، من فضاء إيديولوجي إلى مكمن لخرافات وسرديات، لا سند اجتماعياً لها. لقد كان الواقع بعد الحرب في ذروة انقسامه العمودي والأفقي، وهذا ما أفسح المجال للأباطيل والحكايات الواهية أن تضرب بجذورها في أعماق المجتمع الظاهر والمكتوم.
الحرب المضمرة
من سمات الخرافات أنها لا تسمح للمعتقدين بها بأن يقتربوا من واقعهم. تعزلهم عنه، بعد تشويهه، وزرع الرعب منه. فـ"العيش المشترك"، بوصفه خرافة ايديولوجية، يمنع اللبنانيين من الاقتراب من أزماتهم، والبحث في حلولها. إذ يوهمهم بأنه الحل لكل مشكلة يعانون منها، بدونه لا يقوون على تدبير أمورهم وممارسة يومياتهم، لأنها ستكون مهددة على الدوام. يكتم "العيش المشترك" البنى الواقعية التي تولّد الإضطرابات والأزمات، لكنه يسعّرها في الوقت عينه. يخفي الحرب الاجتماعية، لكنه يؤججها. فكلما انتشرت خرافته أكثر، ازدادت احتمالات التقاتل والتذابح بين الجماعات المريضة بها. تكمن خطورة "العيش المشترك" في أنه ليس خرافة جمعية فحسب، بل هو في الكثير من الأحيان مرض فردي، يصيب علاقة الذات مع الغير بالقلق والاضطراب، قبل أن يقيّدها بهويات صراعية، ويكتم أبعادها الأخرى. على إثر الإصابة هذه، يتفسخ الاجتماع بين الأفراد، ما يؤدي إلى تراجعهم نحو الطوائف، أو إلى أي تمثّل جماعي- طائفي آخر، حتى لو حمل إسماً أو عنواناً حديثاً.
لا يعترف الأفراد، تحت وطأة الخرافة، بأن ذواتهم تعاني من عصاب إيديولوجي، على رغم تقهقرهم الإجتماعي. غالباً ما يحمّلون الآخر مسؤولية هواجسهم، فيؤلّفون العلاقات مع الغير على أساس "العيش المشترك"، أي الاجتماع معه من أجل إزالته من الحضور عندما تسنح لهم الفرصة. قبل أن يصبح الظرف مؤاتياً، تجتمع الذات مع الغير داخل خطاب كارثي، يضمر الحرب، ويهجس في الاجتماع على السواء. فالكلام الذي تعلنه الذات للآخر، يتضارب مع مستوره، وحين تكرر أنها تسعى إلى الاشتراك في العيش، تعني بتكرارها هذا أنها تسعى إلى خوض الحرب ضده، وتقاسم الموت الاجتماعي معه.
في هذه الجهة، لا يعود "العيش المشترك" مجرد خرافة إيديولوجية، يقتصر ظهورها في الخطاب السياسي وواقعه، بل تتعداه بتمثلاتها المختلفة إلى العلاقات المجتمعية المعقودة في الحياة اليومية. فهذه الخرافة هي سبب من أسباب الانحدار العلائقي بين الجماعات والأفراد، تسعّر المكبوت الإجتماعي، وتفسح المجال كي يتمظهر عبرها، أي داخل الحدود السلطوية للكلام والسرد وكل الممارسات الموازية لهما.
ثورة الإنحسار
نتيجة اقتراح مشروع قانون "اللقاء الأرثوذكسي"، تفصل السلطات في لبنان بين مقولة "العيش المشترك" وخرافته. تتخلى عن الأولى، وتحتفظ بالثانية لتأكيد ضرورة قرارها الرسمي بالانفصال الطوائفي. ففي إمكانها أن تسوّغ انفصالها بالإستناد إلى "العيش المشترك"، الذي انطوى، منذ تأسيسه الميثاقي، على نفور غير معلن بين الجماعات، مرسِّخاً شعورها بالخوف المستتر. على أساس الذعر المتبادل طوائفياً، اقتُرح "العيش المشترك" كحل أساسي لإشكالية تجاوُر اللبنانيين، المختلفين هوياتياً، في فضاء مقسّم بؤراً اجتماعية، كل واحدة منها مفصولة عن الأخرى، ومرتبطة بها لفظياً.
عمّق "العيش المشترك" الإنقسام لأنه كتم رغبة الجماعات بالإنفصال. لذا، كان بمثابة مقولة من أجل تفكيك الاجتماع واخضاعه مجزّأًً. عندما تقترح السلطات قانوناً انتخابياً، يسمح لكل طائفة بانتخاب نوابها فحسب، فإنها ترفض "العيش المشترك" بوصفه مقولةً تقيّد الطلاق الطوائفي، وتحتفظ به بوصفه خرافةً تبرر الطلاق نفسه. بمعنى آخر، تتخفف السلطات من فائضها الايديولوجي، الذي كان "المشترك" جزءاً منه. على المستوى الاجتماعي، تتخفف الذات من غيرها، بدون أن تتخلى عن نظرتها إليه كمهدِّد دائم لها، أي أنها تزيله من واقعها بالتوازي مع اعتقادها بخرافته.
لن تدوم خرافة "العيش المشترك"، في حال إقرار "القانون الأرثوذكسي"، لأنها ستفقد ساندها الإيديولوجي، وتصبح سردية واهية بالضرورة التي يمليها الواقع على الجماعات والأفراد. فبعد أن تتواجه كل سلطة حزبية مع جماعتها الطائفية، تكتشف الأخيرة أن أزمتها ليست صادرة عن الغير الذي كانت قد انفصلت عنه بسبب التضارب الهوياتي بينهما. تنتج أزمتها من السلطة بحد ذاتها، التي تحوّل الهوية أداةً صراعية. وكما تحاول تجزئة الإجتماع، تفرض على مكوّناته الاشتراك في العيش المتجاور. لا فرق هنا بين الانقسام و"العيش المشترك"، لأنهما يحاصران الإجتماع، ويعوقان تطوره الإيجابي.
غير أن القانون الانتخابي الجديد لا يسمح للسلطة بالتوليف بين الإثنين، لأن الانقسام غير وارد بعد انفصال كل طائفة عن الأخرى. أما الاشتراك في العيش، فلا يمكن ممارسته البتة، بسبب غياب عناصره الاجتماعية المختلفة. تالياً، لا يبقى منه سوى خرافة تبدأ بالانحسار شيئاً فشيئاً بحسب شدة الاصطدام بين كل جماعة وسلطتها. تخرج الأولى على الثانية، وتتفلت من حدودها الإيديولوجية إلى فضاء عام، لا طوائف فيه ولا جماعات، ولا حرب ولا "عيش مشترك".
في تلك اللحظة الثورية، من الممكن التأسيس لاجتماع غير طوائفي، حيث الهويات لا تتصارع، كما لا تتمثل إيديولوجياً وخرافياً. فلا حاجة للأباطيل والسرديات المتناقضة ما دام "المجتمع اللبناني"، الذي صوّره الميثاق وظهّرته الحرب وشوّهته الهدنة، قد تفكك إلى طوائف واضحة المعالم، لا وظيفة لها سوى التصارع. على إثر "القانون الأرثوذكسي"، تتعطل هذه الوظيفة، لأن موضوع النزاع، أي الغير، يغيب، ما يؤدي إلى تعطيل الذات الطائفية، واصطدامها بالديكتاتورية التي تحكمها مباشرةً. لا يعود "العيش المشترك" حاضراً، ولاسيما أن السلطة تصبح واضحةً أكثر، فتبدأ مرحلة اطاحتها، والبحث في عقد اجتماعي جديد، لا خرافات داخله ولا هواجس. | |
|