التاريخ: آذار ١٠, ٢٠١٣
المصدر: جريدة الحياة
في ضرورة البحث عن عقل للثورة - حازم الامين
بعد انقضاء سنتين على انطلاقة الانتفاضة في سورية، دُفعت خلالها الى التحول من العمل الشعبي والسلمي الى العمل العسكري، ما زالت القطاعات الأوسع من المعارضة السورية في الداخل والخارج عديمة العلاقة بالسياسة، اذا اعتبرنا ان الأخيرة تصريف للوقائع والأفعال واستثمار في النتائج.

وربما كان القول إن خمسين عاماً من العيش في ظل البعث ومن «عدم السياسة»، هو ما يُفسر هذا العقم الذي تتخبط به المعارضة السورية بأشكالها المختلفة، ولكن بعد عامين من الثورة ومن العمل السلمي والعسكري، صار من المفترض ان تتراكم تجربة، لا تلوح حتى الآن في الأفق السوري احتمالات تشكّلها.

تجري الوقائع السورية اليوم من غير سياق. وهنا نتحدث عن الوقائع التي تقف المعارضة في الداخل والخارج وراءها. يُخطف جنود دوليون في الجولان، وتُقدم صفحة «الثورة السورية ضد بشار الأسد» على «فايسبوك»، وهي الصفحة الأشهر والأكثر نفوذاً، على اقتراح إسم طائفي وعنصري للجمعة الأخيرة، ويظهر فيلم ثانٍ لطفل على «يو تيوب»، في وقت تُحقق فيه كتائب أخرى في «الجيش الحر» انجازات ميدانية بالحد الأدنى من الأخطاء والانتهاكات، كما جرى في مدينة الرقة، ويتصدى ناشطون مدنيون للإسم الذي اقترحته صفحة «الثورة السورية ضد بشار الأسد» للجمعة الأخيرة، فيغيّرونه على نحو جذري، بل ينجحون في فرض اسم معاكس تماماً للإسم المقترح من ادارة الصفحة، وفي هذا الوقت يفوز «الائتلاف الوطني السوري»، الذي عجز عن تشكيل حكومة انتقالية، بمقعد سورية في الجامعة العربية.

للمرء ان يعتقد بأن هذه الوقائع غير المنسجمة هي حصيلة عقم سياسي ألمّ بالمعارضة السورية، وأنها أيضاً حصيلة فصام الداخل والخارج في وعي الثورة وفي ثقافتها. فقد صار واضحاً ان الداخل يتحرك على وقع مختلف، لا بل مستقل، عن الأداء السياسي للائتلاف الوطني. وأن «الداخل» في الثورة السورية ليس جسماً سياسياً واجتماعياً منسجماً، ومؤدياً وظائف تُكمل إحداها الأخرى.

خطف الجنود الدوليين في حوران، اذا ما أراد المرء ان يجعله حدثاً سياسياً، هو انتقال في عمل المعارضة العسكري من موقع الى موقع. هو بمثابة اعلان مواجهة على جبهة أخرى، ليست الجبهة الإسرائيلية بطبيعة الحال، انما جبهة الستاتيكو القائم هناك منذ قرابة أربعة عقود. والأكيد ان قرار الخطف لم تتخذه جهات في قيادة المعارضة في الداخل أو الخارج، انما قائد ميداني لا نعرف عن طموحاته شيئاً، وهو بفعلته هذه قرر ان الثورة في سورية هي الآن في هذا الموقع. ونحن هنا لا نتحدث عن وقائع صغرى انما عن وقائع كبرى يتحدد في ضوئها مستقبل الانتفاضة في هذا البلد.

الأمر ذاته ينطبق على الاسم المقترح للجمعة الفائتة، فالرسالة القبيحة المحمّلة بهذا المقترح تحدد للثورة كلها موقعاً طائفياً لا ترغب فيه شرائح واسعة في المعارضة السورية، والدليل على ذلك الحملة المضادة التي شنّها آلاف من الناشطين على الاسم المقترح، ما دفع إدارة الصفحة إلى تغييره بسرعة.

اذاً، أين هو ضابط العلاقة بين الثورة وبين ما يُفترض انه عقلها وموظِفُ انجازاتها في السياسة؟ وهل يمكن ثورة ان تستقيم وأن تنجز من دون إحداث هذا الموقع؟

الجواب «لا» على نحو حاسم، والدليل هو تلك الكمية المُبدّدة من الإنجازات. فالثورة بلا عقل لن تكون أكثر من حفلة صراخ دموي على ظلم مديد، تُمعن فيها الضحية في الانتقام من نفسها ومن عدوها في آن، وهذا ما لن يؤتي أُكلاً سياسياً، انما هو مجرد استجابة الدم للدم. لا، ليس عقلاً طائفياً ذاك الذي كان وراء اطلاق إسم «جمعة سورية والعراق في مواجهة الفرس المجوس» على يوم الجمعة الفائت، فالعقل الطائفي خبيث ولا يُفصح عن مكنونه بهذه السذاجة. ما كان وراء الاسم شيء من فطرة طائفية غبية وضعيفة الحساسية والعلاقة بالسياسة، وما مسارعتها الى سحب الاسم إلا بفعل ذلك. الأمر ذاته ينطبق على واقعة خطف الجنود الدوليين في حوران، فـ «كتيبة» الجيش الحر التي أقدمت على ذلك، اكتشفت بعد أقل من ساعة على فعلتها أنها في صدد ورطة سياسية وأمنية نتيجة فِعلتها. راحت تقول إنهم ضيوف وإنها تحميهم من النظام، وفي الوقت ذاته أرسلت مطالب وشروطاً لإطلاقهم!

ما يُفترض ان يكون عقل الثورة في سورية هو الآن مقيم تماماً في الخارج، وعجزه في الخارج مُضاعف. فهو من جهة عجز عن تمثيل وقائع الداخل وعن إدراجها في سياق سياسي يُمكن استثماره، ومن جهة أخرى عجز عن انتاج آلية انتقالية يقترحها على السوريين وعلى المجتمع الدولي ويُعلن من خلالها برنامجه البديل للمرحلة الانتقالية على الأقل.

والعجزان المشار اليهما يُكمل أحدهما الآخر، فيتولى الأول تمثيل الفوضى في الأداء الميداني لـ «الجيش الحر»، بينما يجعل الثاني من العجز الأول أساساً لفشله في انتاج سلطة انتقالية.

ففي سياق الفوضى خطف «قائد حرب» في الثورة مجموعة لبنانيين قال انهم من «حزب الله». تحولت هذه الخطوة الى فعلة مافيوية، ولم يتمكن أحد من استثمارها، كما لم يتمكن قادة المعارضة من اطلاقهم.

المشهد في الداخل لم يَعد يحتمل الانتظار. صواريخ «سكود» التي يُطلقها الجيش النظامي تقتل الناس لكنها تُضاعف شرعية الثوار، لكن «أخطاء الثورة» صارت جوهرية أيضاً، ولم تعد هامشاً في مأساة السوريين.

التوجه الى الداخل، تحديداً الى المناطق التي تسيطر عليها كتائب المعارضة لم يعد خياراً يحتمل الانتظار. الوقائع هناك تُدمي وجه الثورة، والقوى الطامحة إلى دور في سورية بعد سقوط «البعث» من غير العدل ان تُحيد نفسها عن الأثمان الميدانية المطلوبة. الجزء الأكبر من السياسة في الثورة يُصنع في الداخل، والخارج ليس أكثر من تتويج لوقائع الداخل.