التاريخ: شباط ٢١, ٢٠١١
المصدر: جريدة السفير اللبنانية
 
كل شيء غامض في ليبيا - عباس بيضون

كل شيء غامض في ليبيا. ندري ولا ندري من هو الرئيس ولا نعرف من هو الشخص الثاني والثالث والرابع في تراتب السلطات، لا نعرف ماذا يفعل العقيد القذافي ولا ماذا يفعل ولده سيف الإسلام ولا ماذا يفعل أولاده الآخرون (اللهم إلا ضرب الخادمات) وماذا تفعل عشيرته وأسرته. وأين تبدأ وتنتهي الأسرة الحاكمة او العشيرة الحاكمة وماذا بين شرق البلاد وغربها وماذا بين طرابلس الغرب وبنغازي. كل شيء غامض في ليبيا حتى ما يجري في شوارع بنغازي والبيضاء ودرنا. يمكن القول إن القذافي ألمع من بلده وإن نظرياته في الديموقراطية (دم على الكراسي) والكتاب الأخضر وحكم الشعب بالشعب والتعليم بالتلفزيون والنهر العظيم واللجان الشعبية اشهر من بلده الذي لا نعرف بوضوح كيف يساس ويحكم وما هو مستوى المعيشة فيه وأين يذهب بتروله. لا يعلم أحد على وجه الدقة من يحكم ليبيا اليوم. العقيد بدون شك، لكن من أي منصب وتبعاً لأي دستور. يعرف الجميع الكثير عن ملابس الزعيم المبتكرة والجديدة على الدوام، يعرف الجميع عن حرسه النسائي وخيمته الشهيرة التي يضربها في خلاء القصور الرئاسية في ليبيا وخارج ليبيا، لا بد ان العقيد كسف بشهرته بلاده ولا بد ان اطواره الغريبة جعلت ليبيا مجهولة الى هذا الحد. منذ أربعين سنة استولى العقيد على الحكم ولا يزال في سدته من ذلك الحين. لا يزال العقيد يسلّي العالم كله بخطبه وملابسه ونظرياته. لقد سلى العالم بحيث نسي تماماً ماذا يفعل في حكمه.


وبحيث جهل ماذا تفعل لجانه. اضحك العقيد الحاكم العالم وصرفه عن معرفة ماذا يجري في بلاده. اعجب العالم بمبتكراته وحرسه النسائي، هكذا تم نسيان الآلاف الذين اودعوا السجن سنيناً بلا حصر وهم لا يعرفون فيم اعتقلوا وفيم حوكموا. نسي العالم ان مسليهم المضحك أرسل قتلته وراء المعارضين ووصلوا إليهم في منافيهم. ناهيك عن الذين أزهق أرواحهم في بلاده وكانوا زاروه فيها، ومن يصرّ على ان يبيت في خيمته، عليه على الأقل ان يحفظ أعراف الضيافة البدويّة. كل شيء غامض في ليبيا، اذن كل شيء غريب في ليبيا، كل شيء عجيب هناك. يُقتل الناس بأعداد خرافية ويظن الآخرون ان هذا من ألاعيب العقيد وسحره. تمتلئ البلاد بالجثث ويظن الناس ان هذا لعب في لعب. لقد عودهم العقيد على ان يخترع، ماذا لو اخترع بلاداً او اخترع قتلى واخترع جثثاً. منذ صار العقيد حاكماً لليبيا، اختفت ليبيا ولا يعرف أحد اين تقع، بل لا يعرف أحد اذا كانت حقيقية، إذا كان يوجد بلد اسمه ليبيا، ام إذا كان يوجد رجل يسمى القذافي. منذ صار العقيد حاكماً ما عدنا نعرف الفرق بين الواقع والخيال، بين السحر والحقيقة، بين العجيب الغريب والبسيط الفعلي. منذ ان تسلم العقيد ليبيا ما عدنا نعرف الفرق بين الحكم وغير الحكم، بين الدولة وغير الدولة، بين الإنسان وغير الإنسان.


يقال ان الناس يقتلون في ليبيا والغرب صامت، والعالم العربي صامت، والمجتمع الدولي صامت. لقد استطاع العقيد أن يسحر العالم ولن يعرف أحد بعد أي واق واق هذه الليبيا. لن يفهم أحد بعد لماذا يسقط الناس كالعصافير فيها، لماذا لا يغنون كالعصافير وهم يسقطون. لماذا يموتون بهذه السرعة. لماذا يجري القتل ما دام ليس هناك حاكم ولا دولة ولا جيش، ما دام الشعب يحكم مباشرة نفسه. هل يقتل الشعب نفسه، الأرجح ان الحرية وصلت الى هذه الدرجة، الأرجح ان القائد يمنح الناس، كرماً وجوداً، حق الموت.