لا نبالغ إذا أكدنا أن المجتمع المصري يمر الآن بعد عامين من الثورة في مرحلة تتسم بسيادة صور متعددة من الإرهاب الاجتماعي. وهذا الارهاب يختلف عن الإرهاب التقليدي الذي تقوم به جماعات مسلحة، غالبيتها تعتنق مبادئ دينية متشددة، سواء أطلقت على نفسها إسم جماعات جهادية أم لا.
وجه الاختلاف أن هذا الإرهاب الاجتماعي تقوم به جماعات متعددة تختلف اتجاهاتها السياسية وتتعدد هوياتها الاجتماعية، ولكنها تجمع كلها على خرق مبدأ سيادة القانون، بل إنها – في غيبة فعّالة لقوى الأمن- تعتدي على أقسام الشرطة وتلقي زجاجات المولوتوف عليها وتمارس حرب الشوارع، التي يسقط فيها ضحايا عديدين يتم الزعم أنهم شهداء الثورة والثورة منهم براء.
لقد أكدنا أكثر من مرة أن هناك فروقاً واضحة بين الثورة والفوضى. لقد كان أنبل ما في ثورة 25 يناير أنها استطاعت من خلال التكاتف الوثيق بين الشباب الذين أوقدوا شعلتها وملايين المصريين أن تسقط النظام القديم الفاسد في فترة لم تتجاوز أسبوعين. غير أن أحداثاً وقعت بعد ذلك – وشاركت فيها جماعات متعددة بعضها للأسف الشديد يرفع رايات الثورة- ووجهت عنفها ضد قوات الشرطة أو ضد القوات المسلحة.
وكأن هناك مخططاً مشبوهاً يهدف إلى إسقاط الشرطة وإسقاط القوات المسلحة معا، كمقدمة ضرورية لإسقاط الدولة.
وإذا أضفنا إلى ذلك الهجوم الظالم على مؤسسات القضاء، وحشد التظاهرات أمام المحاكم، وإرهاب القضاة حتى يصدروا الأحكام على هوى الشارع وليس بالتطبيق لصحيح القانون، فمعنى ذلك أن مؤامرة إسقاط الدولة التي تشارك فيها قوى أجنبية وعربية وجماعات مصرية قد اكتملت.
وفي مواجهة كل هذه المؤامرات استطاعت الشرطة بمجهود فائق أن تكتسب من جديد ثقة الجماهير وأن تحد من الانفلات الأمني، مع أنها مازالت معرضة للإرهاب الاجتماعي من قبل الجماهير الغوغائية التي تختلط فيها العناصر الإجرامية التي تريد أن تمارس جرائمها بلا رادع مع بعض العناصر الثورية المزعومة.
وأقرب مثال على ذلك الهجوم على قسم شرطة شبرا الخيمة والذي تحول حرب شوارع ضد الشرطة، استخدمت فيها قنابل المولوتوف وسقط فيها أربع ضحايا وعدد كبير من المصابين.
وأبرز هذه الصور الإرهابية محاصرة مبنى المحكمة الدستورية العليا ومنع قضائها الأجلاء من دخول المحكمة، وذلك حتى لا تصدر المحكمة أحكامها في ما يتعلق بشرعية مجلس الشورى واللجنة التأسيسية التي لهثت حتى تخرج الدستور بأسرع وقت ممكن.
وقد اعترف قادة الإخوان المسلمين في تصريحات علنية أنهم هم الذين طلبوا من جماهيرهم حصار المحكمة الدستورية العليا، وإن كانوا طلبوا منهم عدم استخدام العنف! لماذا لم يقدم هؤلاء القادة المعروفون بأسمائهم إلى محاكمة جنائية؟
والواقعة الثانية هي حصار الجماعات السلفية من أنصار حازم أبو إسماعيل لمدينة الإنتاج الإعلامي، واعتداؤهم على الإعلاميين وضيوف البرامج، وذلك بأوامر صريحة من أبو إسماعيل، واستمر هذا الحصار أياماً متعددة والسؤال لماذا لم يقدم قادة هذا الاعتصام إلى محاكمة جنائية؟
وإذا أضفنا إلى ذلك عشرات الوقائع الفوضوية التي تتمثل بقطع الطرق العامة أو السكك الحديد أو وقف الإنتاج في المصانع بالقوة ومنع العمال من دخولها، أدركنا أن مصر تمر بمرحلة فوضوية لا سابق لها في التاريخ الحديث والمعاصر.
ووصل الإرهاب الاجتماعي إلى الهجوم على المسؤولين وزراء كانوا أم قضاة أم مديرين، ومنعهم أحياناً بالقوة من دخول مكاتبهم أو محاصرتهم فيها حتى يرضخوا للمطالب المرفوعة من قبل المتظاهرين. كل هذه الظواهر تشير، ويا للاسف، إلى غياب الدولة، وعدم تطبيق القانون بكل صرامة ضد من يخرج عليه.
ونجد في هذا السياق من يدافعون بالباطل عن حق التظاهر السلمي المطلق وحق الاعتصام الفوضوي مع أن هذا الحق المشروع – كما هو الحال في أي نظام ديموقراطي- لابد من تقنينه وتنظيمه، حتى لا تتحول المسألة فوضى اجتماعية لا ضابط لها ولا رابط، كما تطالعنا الصحف كل يوم بأحداث بالغة الغرابة والشذوذ. ونحتاج إلى تحليل دقيق للعوامل التي أدت إلى شيوع هذه الفوضى الاجتماعية.
ولا شك أن النظام السياسي السابق مسؤول عن القمع السياسي الذي كان سائداً وعن خرق حقوق الإنسان بصورة منهجية، ولكنه أخطر من كله ذلك هو الذي تسبب في شيوع الفساد، وإثراء القلة من أهل السلطة ورجال الأعمال الفاسدين (وإن كان هناك رجال أعمال شرفاء ووطنيون) على حساب الجماهير العريضة.
وتكفي مطالعة الأرقام المفزعة والتي تقول أن معدل الأمية في مصر لا يقل عن 40%، كما أن هناك ما لا يقل عن 20 مليون مواطن تحت خط الفقر. وإذا أضفنا إلى ذلك ملايين العاطلين، أدركنا أن ثورة 25 يناير قامت في الواقع بتفجير الغضب المكبوت والسخط الشديد لملايين المصريين، الذين أحسوا أنهم لم يحصلوا كمواطنين على حقوقهم المشروعة في التعليم والصحة والسكن والعمل، وكلها من حقوق الإنسان الأساسية في أي مجتمع معاصر.
غير أن القوى الثورية والجماعات السياسية عموماً لم تقم بدورها في وضع المطالب العملية الكفيلة بإشباع الحاجات الأساسية للجماهير والقابلة للتنفيذ وفق خطة مدروسة، وعلى أساس أن تتم المطالبة بها بطريقة منظمة لا تسودها الفوضى، ولا تجنح إلى العنف كما نشاهد ذلك كل يوم.
بعبارة أخرى اختلطت المطالب المشروعة مع المزايدات غير القابلة للتحقيق على الإطلاق بحكم الأزمة الاقتصادية. كل ذلك في سياق فوضوي تساعد على إشعاله قيادات جماهيرية غير مسؤولة، تمارس التحريض وتنادي بممارسة العنف ضد مؤسسات الدولة.
ونجد في الوقت نفسه حكومة مضطربة غاية الاضطراب، حتى بعد إعادة التشكيل الوزاري، لأنه ليست لديها رؤية شاملة لحل المشكلات. وأخطر من ذلك تسرعها في صوغ قرارات مرفوضة مثل رفع الأسعار بصورة عشوائية ثم تجميد القرار، أو رفع الضرائب، وأخيراَ المشروع المرفوض عن الصكوك الإسلامية، والتي بعد رفض الأزهر لها تم الاتفاق على حذف كلمة “إسلامية” والحديث عن الصكوك فقط، وكأن ذلك سيبرئها من السلبيات والمخاطر الشديدة التي تحوطها، وخصوصاً في ما يتعلق بخصخصة أصول الدولة أو تملك الأجانب لها بطرق غير مباشرة.
ومعنى ذلك أننا في هذه المرحلة الحاسمة من تطور الثورة نمر بمرحلة يسودها الإرهاب الاجتماعي من ناحية - والذي تشارك فيه بوعي أو بدون وعي جماعات سياسية شتى وجماهير غير واعية - ومن ناحية أخرى الضعف الشديد في الأداء الوزاري في سياق غابت فيه سلطة الدولة. كيف يمكن الخروج من هذا المأزق التاريخي؟
باحث مصري |