| | التاريخ: كانون ثاني ٢٢, ٢٠١٣ | المصدر: جريدة الحياة | | القردة والخنازير والأفاعي... ولغة الحرب الدينية - بشير هلال |
طالبت الإدارة الأميركية وسياسيون أميركيون الرئيس محمد مرسي قبل أيام بالاعتذار عن تصريحاتٍ «عنيفة ومعادية للسامية» قالها قبل ثلاث سنوات في «خطبة كزعيم سياسي إسلامي حض فيها المصريين على تربية أولادهم وأحفادهم على كراهية اليهود والصهاينة»، ثم في مقابلة مع تلفزيون «القدس» بعد ذلك بشهور أضاف إليها وصف الصهيونيين بمصاصي دماء ومثيري حروب وبأنهم «أحفاد القردة والخنازير». والحال أن وصف الصهاينة بمثيري الحروب كان سيبدو منطقياً وأن يشي بطوِيَةٍ تستنكر الحرب ومسببيها في المبدأ لولا أن باقي العبارات تنتمي كلها إلى قاموس الحرب الدينية وتُذكِّر بصورة غريبة بتصريحاتٍ أشد عنفاً لرجال دين يهود صهاينة كالحاخام الأكبر السابق عوفاديا يوسف عراب حزب اليهود الشرقيين المتطرف «شاس» الذي قال في أحد دروسه الدينية في أيار (مايو) 2000 «إن العرب صراصير يجب قتلهم وإبادتهم جميعاً»، ووصفهم بأنهم «أسوأ من الأفاعي السامة». وبقي يكرَّر ذلك خلال سنوات بالاستناد إلى اجتهادٍ تلمودي مزعوم يقول: «إذا دخلت المدينة وملكتها فاحرص على أن تجعل نساءها سبايا لك ورجالها عبيداً لك أو قتلى مع أطفالهم». على الأرجح فإن السياق الذي جرى فيه نبش هذه التصريحات وطلب الاعتذار عنها يُنبئ بمحاولة استثمارها من أوساط أميركية واستطراداً إسرائيلية في استدراج تنازلات وضمانات في السياسة الخارجية لمصر من الجماعة الإخوانية التي آثرَت التفرُد بالحكم في ظروفٍ اقتصادية اجتماعية بالغة الصعوبة ونقاشٍ متعثر مع صندوق النقد الدولي ليست مُهَيأة لمواجهتهما لا برنامجياً ولا عملياً بعدما كان شعار «الإسلام هو الحل» برنامجها شبه الحصري قبل الثورة التي فاجأتها قبل أن تعود وتتمكن من قطفها وسط معارضة متنامية. على أبواب انتخابات تشريعية تأتي بعد استفتاء مضطرب على دستورٍ مسلوق غرضه تثبيت ونشر هيمنتهم المُستدامة على مفاصل ومؤسسات الدولة والحياة العامة. وقد اضطر الرئيس إلى التراجع فأعلن الناطق باسمه بعد اجتماعه بوفدٍ من الكونغرس أن التصريحات «أذيعت مجتزأة من سياق تعليقه على العدوان الإسرائيلي على غزة»، وشدَد على وضعها «في السياق الذي قيلت فيه»، والتزامه بالاحترام الكامل للأديان و «حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر وبخاصة الأديان السماوية»، وضرورة «الفصل بين الديانة اليهودية والمنتمين إليها وبين الممارسات العنيفة اتجاه الفلسطينيين العُزَّل». وأن يتراجع الدكتور مرسي رئيساً عمَّا قاله زعيماً سياسياً إسلاموياً قبل ذلك بسنوات قليلة فذلك يوضح المدلول السلبي الذي يمكن أن يبلغه تضخم التأويل الديني أو العنصري للتاريخ. كما يشير إلى الخطورة العضوية لهذا الاستخدام حين يتراكب الديني والسياسي في كيانٍ أو جسمٍ سياسي واحد. فإذا كان عوفاديا يوسف في عودته الفانتازية الانتقائية إلى التلمود كمرجع يعتقد أنه بذلك يُشرعِن ما لا يقبل الشرعنة، وهو الادعاء بأن إسرائيل الحالية والتوسعية هي مجرَّد استعادة حقٍ تاريخي و «إلهي» بأرض فلسطين، وأن حربه ضد الفلسطينيين هي حربٌ مُقدَّسة وموصى بها «إلهياً»، فهو بذلك لا يسد أي طريق للسياسة الفعلية وحسب بل يفتح بإعدامها الطريق إلى «التدمير الذاتي»، مثلما قاربه مثقفون يهود يساريون سلميون ومثلما فعل أخيراً الرئيس أوباما في ما سرَّبه عبر موقع الصحافي جيفري غولدبرغ. إذ قال أنه بات غير مبالٍ إزاء سياسة التدمير الذاتي التي ينتهجها نتانياهو الذي يضم بين حلفائه الحكوميين حزب عوفاديا يوسف. والأكثر دلالة هو استنتاجه أنه «في حال غدت إسرائيل كدولة صغيرة في منطقة معادية، دولة منبوذة تُبعِدُ عنها حتى الولايات المتحدة صديقتها الوفية الأخيرة، فإنها لن تُعمِّر طويلاً»، مُضيفاً أن التهديد الإيراني هو تهديدٌ قريب المدى على إسرائيل لكن «سلوكها هو التهديد بعيد المدى لوجودها». وقد يكون ممكناً تفسير لجوء عوفاديا يوسف إلى مفهوم الحرب المقدسَّة و «المؤلهة» الإلغائية بغياب عناصر شرعنة أخرى لا تؤدي تلقائياً إلى إعادة النظر بالمشروع الصهيوني كجوهر. فحل الدولتين مثلاً من شأنه التعاطي مع إسرائيل كمعطى حديث لا يمنح شرعنة لاحقة للمشروع بقدر ما أنه يصوغ تسوية إنسانية- سياسية لوجوده ونتائجه. وقياساً بذلك فمن الغريب أن يجد الإسلامويون أنفسهم بحاجة إلى البحث عن تبريرات واستعارات من خارج الإنساني-التاريخي الذي يتضمن ما يكفي من العناصر الأخلاقية والسياسية لشرعية الحركة الوطنية الفلسطينية. وسلوك الإسلامويين سنة وشيعة هذا النهج لا يقتصر على نمط مقاربتهم القضية الفلسطينية وحسب بل هو يمتد إلى سائر القضايا بما فيها اختلافاتهم العقيدية والسياسية. وهذا ما صادفناه في ثنايا وامتدادات الخمينية مثلما نصادفه اليوم في الخطاب السياسي لكثرة من فصائلهم بمعرض ثورات الربيع العربي. ويكفي إلقاء نظرة على ما تحفل به بياناتهم ومواقع التواصل الاجتماعي لملاحظة مدى اتساع الظاهرة. فعبارات مثل النواصب والروافض والخوارج والمجوس هي أكثر العبارات شيوعاً ترافقها غالباً توصيفات الخنازير والقردة وأفعال الفطس والدعس والفعس التي تحيل بدورها إلى العالم الحيواني ببعده التوحشي. وهي توصيفات وأفعال لم يتورَّع ديكتاتوريو العالم العربي عن استخدامها بدورهم في وجه شعوبهم. وهو ما كانت التمثيلات الأكثر تبسيطاً لدعاة الحروب الصليبية وسواها تلجأ إليه لوصف الآخر. ووصل الأمر برجال الدين المرافقين لحملات استعمار «العالم الجديد» إلى حد وصف السكان الأصليين بأنهم بلا أرواح. إشكال هذه اللغة أنها ليست فقط من قاموسٍ لاتاريخي وما قبل إنساني، ولا أنها ظاهراً لغة الحرب الدائمة واللاسياسة، بل خصوصاً أنها اللغة التي تستعيرها نُخبٌ وأجهزة سياسية تتوسل التأويل والتمثيل الدينيين للتضليل ولصرف النظر عن سياساتها الخصوصية وإبعاد «الشعب» عن أي دورٍ فعلي في الشأن العام. الأمر الذي يتشابه في محتواه ويتزاوج أحياناً مع المقاربات القوموية الشوفينية. وإذا كان هذا ينسجم مع المصالح السياسية لقوى التطرف الإسرائيلي فإنه يتعارض جذرياً مع مصالح شعوب البلدان العربية و «ربيعها» الذي دخلته في عملية تاريخية ما زلنا في بدايتها. وبذلك ربما كان ولا يزال أجدى للرئيس مرسي وللحركات الإسلاموية التراجع عن هذه اللغة إطلاقاً وليس أمام أميركا وحسب. * كاتب لبناني
| |
|