| | التاريخ: كانون ثاني ٢١, ٢٠١٣ | المصدر: جريدة الحياة | | الأمّة فوق الشعوب - محمد الحداد |
استمعت مرّة لمسؤول من حزب «العدالة والحرية» المصري يبرّر الإعلان الدستوري الذي أقرّه الرئيس محمد مرسي في 21/11/2012، بقوله إنّ الأمة فوق كل السلطات، يقصد فوق السلطة القضائية، وفق السياق الخاص الذي تنزّل فيه ذاك الإعلان الدستوري الشهير. واسترعت هذه العبارة اهتمامي، لأنها ذكّرتني في وهلة أولى بشعار كنّا نسمعه شباباً، ثم أصبح محلّ تندّرنا كهولاً، وهو الشعار الشهير «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». لكنني ببعض التفكير قلت في نفسي إن الأمر لا يدعو إلى التندّر. إنه مستمدّ من أعماق التراث العـربي، ومنـسجم مع أحـدث وسـائل المغالطة والسيطرة. بالنـسبة إلى العـمق التراثي، نـتذكّر عـندما دخـلت نـظرية فـصـل الـسـلطات الثلاث (التـشـريعية والقضائية والـتنفيـذية) الـفكر السياسي العربي في مرحلة كـانت المـعـركة حـول مؤسـسة الـخـلافـة قائـمة، وجد العقل التوفيقي الـعربي الـحلّ السريـع: نظرية فـصل الـسـلـطات لا تـأتـي بـجديـد، نحن أيـضاً لديـنا التـشـريع والـقضـاء مسـتـقلان عن السـيـاسـة (الـحـكومة). أما الخليفة فهو يعلو السلطات الثلاث المفوّضة عنه لأنه ممثل الأمّة ككلّ. إذاً يمكن أن نجمع في آن بين نظام الخلافة ونظرية التفويض التي عرضها الماوردي في كتاب «الأحكام السلطانية» ومبدأ فصل السلطات الذي ابتدعه مونتسكيو في «روح الشرائع»، كلها مع بعض في خلطة واحدة تجمع القديم والجديد وتوفّق بين التراث والعصر. قال هذا الكلام كتّاب كبار عاشوا قبل سقوط الخلافة أو قريباً من أزمة انهيارها (رجل القانون الكبير عبد الرزاق السنهوري مثلاً). وعندما قرأ جيلنا هذا الكلام بعد نصف قرن من أزمة الخلافة ظنّ أن الأمر لا يعدو أن يكون شاهداً على عسر التخلص من المألوف. فهؤلاء تعوّدوا على وجود خليفة، ولو كان صورياً، إلى درجة أنهم سعوا إلى إبقائه في منظومة الحكم حتّى بعد اقتناعهم بنظرية فصل السلطات. لكننا نرى اليوم أنّ الأمور لم تكن إلى هذا الحدّ من الهامشية، بل تستند إلى رؤية عميقة ومتأصلة تعتبر أن هناك شيئاً يعلو كل السلطات، وبما أنّ الشعب يعبّر عن نفسه من خلال إحدى القنوات الثلاث التي تمثلها كل من هذه السلطات الثلاث، فإن الشعب معلوّ عليه بما هو أكبر منه وهو الأمة، أي الصورة المجرّدة والثابتة التي يراد لها أن تكون قالباً لهذا الشعب. فكل ما يريده الشعب ويطالب به لا يتسم بالشرعية إلاّ إذا دخل في هذا القالب، ومن فرط «قولبة» وعي الشعب وفق ما يعتبر «ما قبليّاً» هوية الأمة، يصبح هو نفسه مكبّل الإرادة بما يراه خارجاً على سيادته، وهذه إحدى الصور الغريبة للعبودية الطوعية، تلك التي تتأسس تحت سيادة الشعب نفسه وباسمه. وبالنسبة إلى براعـة هـذه الفـكرة في إحـكام الـسيـطرة علـى البشر، فإنـها تـذكّر بما قيل فـي الرأسمـالية من أنـها تدفـع الشعـوب إلى البـؤس بـدعوى أنها تنمّي ثروات الأمم. هـكذا قال كـارل ماركـس صاحب «رأس الـمال» منـتـقداً آدم سميث صاحب «ثروة الأمـم». فالأمـة بالمـعنى الرأسـمالي هـي أيـضاً شيء مجرّد، وما زلنا نقيـس وضعه إلى اليوم بنـسـب قائـمة على مـعدّلات. فـيـقال مـثلاً إنّ البلد الفلاني يحقّق نتائج نموّ أعلى من 5 في المئة في الـسنة، فهو في وضع حسن، وأن معدّل الدخل الفردي فيه أعلى من 5000 دولار سنوياً، فمواطنوه في وضع حسن، وهكذا. ومع أن مثل هذه الأرقام مجرّد معدلات، يمـكن أن يكون النموّ محترماً لكن عوائـده لا تـوزع إلا على فـئـة مـحـدودة، وأن يكون مـعـدّل الـدخل مـرتـفـعاً لأن شخصاً يعيـش بـ 9000 دولار في السـنة والآخر بـألف دولار فـقط والمعدّل بينهما 5000 دولار. فـما على صاحب الألف دولار إلا أن يكون سعيداً لأن المهمّ هو ثروة الأمة وليس ثـروته الخـاصة، فـالأمة من الـمنظور الرأسمالي هي المقياس الأوحد للثروة. خشيتي أن نترك اليوم المطالبات الحقيقية والواقعية التي قامت عليها الثورات العربية وننهمك في بناء صورة الأمة. سنقنع الناس بأن من غير المهمّ أن يجدوا عملاً للارتزاق، وأن تحلّ قضية الخبز والماء الصالح للشرب، وأن تصلح الطرقات وتبنى المدارس، المهمّ هو أن يشعروا بأنهم أبناء أمة استعادت العزة والكرامة والدور التاريخي، وهلمّ جرّاً من الأشياء التي لا يمكن اختبارها. وليس أفضل في تأكيد ذلك الشعور لديهم أن كل فرد من الأمة يستطيع أن يخرج للشارع فيصرخ كما يريد وإن بات على القرى، وينصب الخيام للاعتصام وإن مات برداً، ويلعن أميركا وإسرائيل من دون مانع ولا رادع، فالأمة استعادت المبادرة! نظرية أن الأمة فوق الشعب وفوق السلطات، وأنّ معركة الأمة هي أمّ المعارك وكل ما عداها يمكن أن ينتظر، تؤدي بالضرورة إلى التسليم لقائد فرد أو لقيادة حزبية بأنهما المعبّران عن روح الأمة الثائرة، وأن القائد أو الحزب يقف فوق الشعب وفوق السلطات، ولا مناص من طاعته في كل إشارة، والخروج لتأييد قراراته وإن خالفت اليوم ما أعلن عنه بالأمس، والنأي بالنفس عن التشكيك في أقواله وإرشاداته، بل اتهام النفس إذا ما بدا بعض المسائل غير معقول لديها. وفـي انتـظار لـحـظة تســنح فيهـا فرصة الإعـلان عن اســترجاع الخـلافـة، يقوم مـرشد حـزب أهـل الـحـقّ بـدور تـجسـيد الأمـة، فـيما يـتقـاسـم المـفوّضـون عنه السلطات الثلاث، فكأنه وليّ الفـقـيه في المـنظـومة الشيعيّة التي ما زالت تنتظر عودة الإمام الغائب، وهو إلى ذلك حاكم حديث، يستند إلى دستور قائم على مقولات حـديثة، لكـنها «مقولبة» وفق سـموّ الأمة. بذلك نكون هيّأنا لأنفـسنا «خـلطة» جديدة من خـلطات التـوفيق الـرديء بين الـتراث والعصر، ومهـدنا لمـسار جديد من المسارات الـمؤدية الى ديكتاتورية ناشئة.
| |
|