نميل إلى تقسيم الثورة السورية منذ انطلاقتها حتى اليوم إلى ثلاثة أطوار: أولها طور الانتفاضة السلمية الآفلة مع رد الفعل العنفي للنظام ضدها. ثانيها طور الاتجاه نحو العسكرة والتنظيمات المسلحة تحت شعار الدفاع عن النفس وحماية المتظاهرين. أما الطور الثالث فهو ما بدأ مع إعلان تشكيلات عسكرية مقاتلة بمشروع ديني تكفيري.
ثمة انجدال لا يخفى في العلاقة بين الطورين الثاني والثالث للثورة السورية يقدّمه البعض عن حسن أو سوء نية، مفاده إسباغ صبغة دينية على هذه الثورة لم يكن قادراً على تقديم براهين عليها أيام سلميتها، مقارنةً بالحال اليوم، مع تزاوج المكوّن العسكري مع المكوّن الديني.
الغبن الأكبر الذي قد يلحق بالثورة السورية بعد اللامسؤولية الدولية تجاه تحول سوريا مسرحاً للموت اليوم على مذبح الحرية، هو الذي يقاربها من زاوية محض دينية تُختزل عبرها الثورة بالدين ويُختزل الدين بالإسلام ويُختزل الإسلام بإسلام متطرف يمسي بحسب البعض سمة لازمة للثورة ضد بشار الأسد ونظامه. إلا أن التسطيح في نقل الصورة هو الذي يغيّب كل ما من شأنه أن يكون صفارة تنذر بخراب عميم ونفق قد تدخله البلاد مستقبلاً، وإن رحل الطاغية غير مأسوف عليه.
في البيئة الاجتماعية المستقبِلة لظاهرة العسكرة
لا يستقر الإسلام الشعبي والمؤمنون به إيماناً بسيطاً لاعنفياً على حالٍ ثابتة، إن تعرضت بيئة المؤمنين هؤلاء إلى خضات وهزات سياسية واجتماعية وأمنية كبرى. الإسلام الديني الشعبي في سوريا متصالح تاريخياً مع السلم الأهلي والتجاور مع باقي مكوّنات المجتمع السوري الطائفية والدينية، وهذا الإسلام السنّي الاكثري كان المكوّن الاساسي للثورة من دون أن يكون الوحيد. اي انه ليس دين الثورة على ما يشير "مثقفون" وعلمانيون موتورون لا يملّون من تبرير استقالتهم الأخلاقية. غير أن أهلية المجتمع السوري وإسلامه السنّي المعتدل كانا دوماً مرشحين للتشوه بحكم الانعطاف الكبير في نهج الثورة الذي قاده النظام بنجاح وأرساه على ضفة العنف واحتمالات الاقتتال الأهلي والاحترابات الطائفية مستقبلاً. هناك عاملان رئيسيان ساهما في جعل الأكثرية السنية السورية هي الاكثر عرضة لنيران النظام، مع تفاوت مستوى تلك النيران بين الطلقة والبرميل المتفجر:
الأول: حجم التهميش المتعمد من النظام، الذي كان يلحق بالريف السوري مقارنةً بمراكز المدن الكبرى ورموزها من قوى اقتصادية وسياسية اندرجت بفاعلية في تكوين المشهد السوري قبل الثورة، والذي كان يسمّى حزام الفقر. هذا جعل الريف السوري يحوز المشاركة الأوسع في الثورة السورية بعد اندلاعها في آذار 2011 ويقدّم صورة متفاوتة لثورات متعددة في سوريا تتعلق بخصوصية كل منطقة من المناطق السورية الثائرة. مناطق متعددة توحِّد الثوارَ فيها وطنيتان: هويتهم "سوريون بالكامل"، وهدفهم "إسقاط النظام".
يتبدى العامل الثاني في محاولة النظام تحييد الأقليات الطائفية والدينية عن الثورة عبر بث المخاوف في صفوفها من شبح التطرف المحتمل، والمعاملة الأقل عنفاً لتلك الأقليات التي ثار جزء منها وانخرط في يوميات الثورة، مقارنة بعنفه تجاه الأكثرية. هذا كان من شأنه أن يجعل البيئة السنية السورية المعارضة للنظام والمطالبة بالتغيير هي الاكثر استعداداً من غيرها لحمل السلاح والانخراط في المواجهة المسلحة، قياساً بسوريين من غير السنّة لم يلحق بهم تدمير وقتل وموت كالذي لحق بـ"سنّة" المناطق السورية والريفية منها تحديداً. هذا نصر يسجَّل للنظام السوري حيث نجح في تقسيم المجتمع السوري اقلية واكثرية، حتى في قلب الثورة السورية ضده، بدلاً من أن يكون الفرز المفترض هو بين دعاة المحافظة والاستبداد من جهة ودعاة التغيير وإقامة الدولة الديموقراطية من جهة ثانية. الفرز الثاني كان محتملاً اكثر مع بدايات الثورة السورية ومدنية شعاراتها ووطنيتها قبل بدء الانتقال من الطور الثاني إلى طور الأسلمة غير البريئة.
التمترس طائفياً
مع اتجاه الثورة والثوار في المناطق المنكوبة نحو العسكرة وتشكيل "الجيش السوري الحر" على أيدي ضباط منشقين، كان ثمة نفس ديني غيبي يعلو صوته رويداً رويداً مترافقاً مع العمليات العسكرية المحدودة لـ"الجيش الحر" أو المسلحين المدنيين آنئذٍ. إن صرخات من قبيل "الله أكبر"، مع كل عملية عسكرية ضد القوات النظامية، تبدو طبيعية في بيئة مسلمة، تزامناً مع ارتفاع هتافات تمجيد الخالق والاستغاثة به وفق هتاف ردده السوريون في تظاهراتهم "يا الله ما إلنا غيرك يا الله"، كعلامة على فقدانهم اي سند سياسي وعسكري وإغاثي يعوَّل عليه إلا ربّهم، آن اجتمع الشرق الشمولي والغرب الديموقراطي لإبقائهم وثورتهم اليتيمة عرضة للموت اليومي. كما أتت تلك الصرخات رداً على مناخات السجود لصور بشار الأسد والتمسح بتماثيل أبيه وشعارات تأليه الفرد وعبادته في خندق الولاء القطيعي والأعمى في صفوف مؤيدي النظام ومريديه والمدافعين عنه إلى حد قتل الآخر السوري الشريك في الوطن فداءً للرئيس. عبادة الرئيس وجهاً لوجه مع عبادة الله، هي علامة على بروز حال طائفية صدامية بين الطرفين، وخصوصاً مع انصراف إعلام النظام إلى بث الاحتقان بين مؤيديه ومعارضيه على أسس طائفية بلغت أبشع أشكالها عبر الزجّ بالطائفة العلوية في معركته مع الشارع الثائر.
الممارسات الطائفية للنظام وتابعيه قادت بالضرورة، وإن بعد حين من بداية الثورة، إلى احتقان طائفي في صفوف الثوار، فبات الشقاق واضحاً اليوم: نظام ذو غالبية علوية يواجه ثورة ذات غالبية سنية.
التسلح إسلامياً
لكنّ حالات الصدام الطائفي المباشر وغير المباشر لم ترافقها حالات تطرف على مستوى ديني ضيق في صفوف الثورة، إنما كان المدّ الديني السلفي والجهادي ينمو باطراد وتحديداً منذ بداية عام 2012 ليمسي هو الخصم والحكم في الآن نفسه اليوم. من شأن الانحياز الضروري إلى الثورة السورية ضد بشار الأسد أن يقزّم كل ظاهرة سلبية في سياقها. هذا ليس للتقليل من فرادة الثورة ومن أسطوريتها ومن بطولات الشعب السوري النادرة في مواجهة نظام بات رحيله ضرورة لا مناص منها لاجتراح الغد السوري أياً يكن هذا الغد. لكن لأن ذر الرماد في العيون بات علامة الخطاب السياسي السوري المعارض والاختزالي والتبسيطي، بعكس خطاب عربي إقليمي وغربي كان ولا يزال يحمل عار المشاركة الكبرى في استجلاب العنف والتطرف الديني المتلازمين، وتحويل اللحية المحلية المسلمة في سوريا إلى لحية جهادية باتت جنباً إلى جنب، وبالنهج الجهادي نفسه، مع لحى كانت على تضاد مع فكرة الدولة وبنائها في مناطق شتى من العالم وعلى علاقة وثيقة بالفراغ والبيئات الاجتماعية المدمرة. العراق واليمن ومناطق قبائل البشتون في أفغانستان امثلة غير حصرية على ذلك.
افتقار المعارضة السورية إلى قيادة موحدة تنظّم المعركة السياسية ضد النظام وتنسج علاقات وطيدة مع الثورة المسلحة على الأرض وقواها وتشكيلاتها، لعب دوراً في تبعثر العنصر الوطني في "الجيش الحر" او تشكيلات عسكرية قريبة منه، وبات الحديث عن الجهاديين والكتائب السلفية وإماراتها المعلنة من قبيل التبسيط والتقليل من الأخطار المحتملة لتلك الكتائب، لا اكثر ولا أقل.
في 25 كانون الثاني 2012 أعلن في مقطع فيديو منشور على موقع youtube تشكيل ما عرف بـ"جبهة النصرة لأهل الشام" وهذا ما أثار ردود فعل عدة في أوساط الناشطين السياسيين الديموقراطيين في سوريا والكثير من تشكيلات المعارضة السورية التي اتهمت النظام السوري بأنه وراء تشكيل تلك الجبهة لضرب صدقية الثورة. والحال أن النظام السوري الذي كان اكثر المغتبطين لبروز حال كهذه في صفوف الثورة، لم يكن وراء تشكيل "جبهة النصرة" كما تبيّن لاحقاً، علماً انه الدافع الأول لبروز حال كهذه، بعنفه المنقطع النظير وبفتحه البلاد على مصراعيها امام الجهاد الإسلامي. بعد "جبهة النصرة" تشكلت كتائب وألوية إسلامية لم تعد على علاقة بالثورة، من بوابة الدين الشعبي، فبات لكل تشكيل منها توجه خاص يفرضه هوى المقاتلين وتمويل كل فصيل من تلك الفصائل. باتت سوريا وثورتها في مهب الطائفية: طائفية النظام وعنفه، وطائفية ما أفرزه تضافر الجهود الأسدية والغربية والعربية لإبقاء الشعب السوري بلا مدافع عنه يحميه من التصدعات والضريبة البشرية والمادية العالية التي يدفعها يومياً.
مدنيو "الجيش الحر" او حتى عسكريوه ليسوا سلفيين بالضرورة، وقتالهم ضد النظام لتحرير سوريا من حكم آل الأسد، إلا أن الامر ليس كذلك في صفوف "جبهة النصرة" و"كتائب احرار الشام" وغيرهما. في حين أن الدعم الخليجي اللامحدود من رؤوس اموال لمتشددين دينياً في الخليج العربي هو دعم لتيار ديني جهادي وسلفي يرى في إقامة دولة الخلافة وفي وأد احتمالات تمدد رياح التغيير من سوريا إلى الخليج العربي هدفاً لا رجوع عنه. اما دعم التيار الوطني في صفوف المعارضة المسلحة فيبقى بين اخذ وردّ غربيين ووعود بالتسليح والحظر الجوي، لا يبدو الغرب جاداً فيها، وإن استمرت المقتَلة السورية ردحاً آخر من الزمن. يحدث هذا كله في ظل ضعف العنصر العلماني او المدني في الثورة وتخاذل بعضه وعدم وجود قوى قادرة على المزاوجة بين الفكر المدني الذي تحمله وقتال النظام السوري بالسلاح مثلاً، وهذه إشارة اخرى إلى ما فعله نظام الأسد باليسار السوري وبالقوى المدنية على مدى عقود، حتى صارت إما خارج القدرة على الفعل والتأثير في المعركة العسكرية معه، وإما انها ملتحقة به على شاكلة احزاب "الجبهة الوطنية التقدمية".
على سبيل الخاتمة
إلى جانب نقل الصورة على غير ما هي عليه، يتضافر إعلام سوري معارض يلغي كل صوت يدعو إلى المكاشفة ومحاسبة المتطرفين ومساءلتهم, صوت متخوف من المستقبل من داخل هذه الثورة ولمصلحة هذه الثورة ضد الطاغية. يبدو لنا ان ما يجري غض النظر عنه اليوم، من أخطاء وخطايا سيكون جزءاً من شكل النظام المقبل ما بعد رحيل الأسد غير مأسوف عليه. عندها ستكون سوريا على غير ما طمحنا إليها في يوميات ثورتنا العظيمة. كما سيكون شهداء هذه الثورة وسام شرف على صدر البلد، وسيكون ما جرى ويجري في سوريا وصمة عار على جبين المجتمع الدولي والعالم "المتحضر" والعرب وانظمتهم اللاوطنية، وعلى جبين مثقفين سورييين مشوا مع التيار الديني التكفيري بدواعي بساطته وحتمية زواله وبرروه، وخوّنوا منتقديه، بدل انخراطهم النقدي في الثورة السورية، وهو التيار الذي سيكون علامة الوجع السوري المقبل بعد رحيل الوجع السوري الراهن: نظام بشار الأسد. سوريا سقفنا، والأمل والخلاص. |