ينهي سعدون حماده مقدمة كتابه "الثورة الشيعية في لبنان 1685-1710(¶)"بما يلي: "إنها ثورة لبنانية عامة قامت في وجه الاستبداد العثماني. إنطلقت من شمال لبنان ولم تلبث أن إمتدت إلى سائر أنحائه، من بادية حمص حتى الجليل، ومن المدن الساحلية كطرابلس وجبيل وصيدا وصور حتى سفوح الجبل الشرقي في ضواحي دمشق،شاملة لبنان الحالي بكل نواحيه وطوائفه ومكوناته.لذلك، لا بد لهذه الحركة الهادفة من أن تستعيد مكانتها اللائقة في التاريخ الوطني اللبناني، في مقدمة محطاته المصيرية وأولى صفحاته البارزة".
تثير هذه المنهجية إشكاليات علمية عدة. فالمصطلحات والمفاهيم الواردة فيها بقيت ضبابية إلى اقصى الحدود. فلماذا الابتعاد عن المفاهيم والمصطلحات التي كانت سائدة في تلك الفترة بحيث تحل الثورة الشيعية بدلا من إنتفاضة الشيعة او تمردهم او عصيانهم، ولبنان بدلا من المقاطعات اللبنانية، والشعب الشيعي بدلا من الجماعة أو الطائفة الشيعية، والحكم الشيعي بدلا من المقاطعجي أو الملتزم الشيعي، والجمهورية الشيعية وكثير غيرها؟ علما أن المؤلف نفسه يصف "الثورة الشيعية" في نهاية بحثه بأنها " جمهورية العصاة الحرة" (ص 519)، بدلا من إنتفاضة اللبنانيين ضد الحكم العثماني على غرار إنتفاضة الفلاحين في كسروان ضد آل الخازن عام 1858.
فإذا كانت الثورة المشار إليها "لبنانية عامة في وجه الاستبداد العثماني"، فلماذ وصفها بالشيعية؟ وهل أن التركيز على تاريخ طائفة بعينها وإبراز دور بعض الزعامات السياسية فيها، يصوب مسار الدراسات التاريخية التي شكا المؤلف من إنحيازها وعجزها عن تقديم رؤية علمية جامعة لتاريخ جميع اللبنانيين على إختلاف طوائفهم ومناطقهم؟
ومع أن الكتابة الطوائفية حول تاريخ المقاطعات اللبنانية أصبحت مدانة من الباحثين الجديين، ومنهم مؤلف هذا الكتاب المهم، إلا أنها ما زالت تثير حماسة مؤرخي الطوائف.وغالبا ما يتركون العنان لعواطفهم بعد جلاء حقائق تاريخية تطول طائفة بعينها للرد على من تجاهلها من مؤرخي الطوائف الأخرى .فتبدو الكتابة الجديدة بمثابة رد اعتبار لتاريخ طائفة بعينها، ورفع الغبن الذي لحق بزعمائها في المرويات الطوائفية اللبنانية.فالأهداف الإيديولوجية المسبقة تشكل سمة بارزة في التأريخ الطائفي للمقاطعات اللبنانية. ويستخدم مؤرخ الطائفة الكثير من الوثائق الأصلية غير المنشورة عن طائفته، ثم يختار ما يلائم إيديولجيته الطائفية من وثائق ارشيف الدول الكبرى ذات الصلة بتاريخ لبنان.
وقد لعب الأرشيف الخاص بكل طائفة دورا بارزا في التأريخ للمقاطعات اللبنانية وإعطائه صفة الشمولية. ومنهم من إستفاد من وثائق الأرشيف الفرنسي الذي تضمن كما هائلا من المعطيات عن تفاصيل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المقاطعات اللبنانية في العهد العثماني.
نتيجة لذلك، إمتلأت رفوف المكتبة التاريخية بكثير من الكتب التاريخية ذات التوجهات الطائفية الوحيدة الجانب أو التي تتحدث عن العلاقات بين الطوائف اللبنانية، وعن علاقاتها الجانبية مع الدول الكبرى.
بدءا بالعنوان، تبدو دراسة سعدون حماده محكومة بهاجس سياسي في البحث عن تاريخ الشيعة ودور زعمائهم المميز في المقاطعات اللبنانية. فحشد كما كبيرا من الوثائق الأصلية التي بحوزته، وهي غير منشورة عن وجود الشيعة وإنتفاضاتهم المتكررة ضد الحكم العثماني ،وصولا إلى الثورة الشيعية التي تحولت إلى "ثورة لبنانية عامة" شكلت موضوع هذا الكتاب. كما إستند المؤلف إلى وثائق منشورة في الأرشيف الفرنسي، ومنقولة عن الأرشيف العثماني. وإعتمد مصادر أساسية تناولت تاريخ منطقة بلاد الشام في القرون السادس والسابع والثامن عشر. وناقش غالبية المراجع العلمية والطوائفية التي تناولت المسألة الطائفية في المقاطعات اللبنانية من مختلف جوانبها.
تضمن الكتاب سبعة أبواب توزعت على خمسة وأربعين فصلا. وحملت الأبواب العناوين التالية: الطوائف اللبنانية في العهد العثماني، مواطن الشيعة اللبنانيين واصولهم، المشروع السياسي للشيعة اللبنانيين، الشيعة الثائرون، الحكم الشيعي، جذور الثورة، وأخيرا ثورة 1685-1710.
زمان الدراسة إذن يمتد عبر القرون الثلاثة الأولى من العهد العثماني، من مطلع القرن السادس عشر حتى مطلع القرن الثامن عشر 1516 - 1710. ويتضمن إنتفاضات، أو حركات تمرد للشيعة "اللبنانيين" ضد تسلط الحكم العثماني، وصولا إلى" ثورة شاملة في لبنان". وبلغت الانتفاضة الأخيرة أقصى مداها من خلال مشاركة زعماء الشيعة في مختلف مناطقهم،وغالبية زعماء الطوائف اللبنانية الأخرى، وذلك بالتزامن مع إنشغال السلطنة العثمانية في حروبها مع دول كبرى.
المنهج والفرضيات والمعطيات
منذ البداية، يقدم المؤلف مفتاح منهجيته بنفسه. فيشير مرارا إلى أن المراجع التاريخية لم تتنبه إلى تاريخ الشيعة في لبنان رغم وجود وثائق ومصادر لا حصر لها في هذا المجال. وهي وثائق منشورة في الأرشيف العثماني والفرنسي والمحلي، وتؤكد على دور الزعامات الشيعية في تاريخ المقاطعات اللبنانية من أقصى الشمال إلى اقصى الجنوب مرورا بالبقاع وجبل لبنان. ويتهم غالبية مؤرخي الطوائف اللبنانية الذين تجاهلوا الوثائق الأصلية والمصادر العلمية الرصينة، وإعتمدوا وقائع تاريخية مسندة إلى مرويات لا اساس لها من الصحة، لإبراز دور الأسرة المعنية المشكوك في بدايات تشكلها، ثم المبالغ فيه لصوغ رواية ضبابية حول إنتقال السلطة من المعنيين إلى الشهابيين، وتجاهل الدور الأساسي للزعامة الشيعية في تغليب كفة الأمير حيدر الشهابي على خصومه المحليين في معركة عين دارا.
بعد توجيه لوم حاد إلى المؤررخين اللبنانيين الذين لم يلفتوا الانتباه إلى تلك "الثورة" ولو بإشارة عابرة في دراساتهم عن المقاطعات اللبنانية، حشد الكثير من الوثائق الرسمية المحلية، ووثائق من الأرشيف العثماني والأرشيف الفرنسي لكي يقدم نموذجا متطورا عن كتابة تاريخ مقاطعات لبنانية كان غالبية سكانها من الشيعة، وأخرى كانت من طوائف متنوعة نال زعماء من الشيعة حق إلتزام ضرائبها، وابرزهم من أسرة الأمراء آل حرفوش، والمشايخ من آل حماده.
لذلك بقيت الدراسة أسيرة منهجية التأريخ الطوائفي مع محاولة رد الإعتبار لتاريخ زعماء الشعية ودورهم في تاريخ لبنان.فرأى "أن سنة بلاد الشام في ظل الحكم العثماني، إستمروا كما كانوا في العهود السابقة، عصب الدولة ومادة الحكم. فهم أهل الجماعة والطاعة، وسكان المدن،وأرباب التجارة، يلتفون حول ممثل الدولة الجديدة في مراكز الولايات،ومنهم معظم حاشيته من أصحاب النفوذ والسلطة . فتكاثروا في المدن الساحلية التي لم تكن قبلا مراكز نيابات مملوكية كبيروت وصيدا. وتوارى من كان باقيا فيها من أقليات شيعية أو نصرانية في مسالك الجبال القريبة"( ص 17).
وكرر القول بأن "الدولة العثمانية المذهبية "إعتمدت أساسا وحيدا لتصنيف رعاياها. ولم تحظ الطوائف الإسلامية غير السنية في أي وقت بميزة إعتبارها ملة كغيرها، لأن الدولة لا تعترف بها". فلا الدولة نظرت إلى الشيعة كرعايا مثل غيرهم، ولا هم إعتبروها في أي وقت أنها دولتهم التي يدينون لها بالطاعة والولاء. فبدا العداء متبادلا بين الطرفين" (ص 17 ).
لكن قرونا طويلة من الاضطهاد والقمع والملاحقات المأسوية التي إستهدفت الشيعة اللبنانيين كمجموعة بشرية موحدة، أحيت في شخصية كل فرد منهم غريزة حب البقاء، وروح المقاومة والتمرد، وغرست اقتناعا جماعية بأن وجودها أو زوالها كأفراد أو مجموعة يتوقف عل نتيجة الدفاع المستميت عن النفس . "فكان أن عرف التاريخ أن في لبنان قوما من الشيعة يمتازون عن إخوانهم في المذهب الموجودين في سائر بلاد الشرق عرفوا دون غيرهم بإسم "المتاولة" (ص 22).
وهذا اللقب، برأيه، لا يحمل الإساءة بل يشير إلى تمايز هذه الفئة عن سائر الشيعة خارج المقاطعات اللبنانية. فالمتاولة شعب يعيش في لبنان وأنتي لبنان. وينتشر غالبا في المرتفعات الممتدة من أقصى جرود عكار في الشمال، شاملا جبل لبنان وكسروان حتى تخوم جبل الدروز حيث إنحسر وجوده بعد إنتشار المذهب الدرزي في العصر الفاطمي. ثم يتكاثف وجود الشيعة في الجنوب وصولا إلى الحد الفاصل بين جبل عامل وصفد في جبال الجليل، وبين السلسلتين في وادي البقاع صعودا إلى أعلى المرتفعات المسكونة في جبل الشيخ، وأهم مدنه في العصر الوسيط بعلبك وصور.
ثم دفع بالنظرة الشيعية إلى تاريخ المقاطعات اللبنانية إلى اقصى مداها حين أكد على بقاء الوجود الشيعي فيها عبر مختلف المراحل التاريخية. وأنه "قبل العهد العثماني بمدة طويلة، كان الوجود الشيعي منتشرا في لبنان كله، ساحلا وجبلا، حكاما ومحكومين. وكان الساحل اللبناني يغلب عليه الطابع الشيعي من طرابلس حتى صور مرورا ببروت" (ص 49 ).
كانت مناطق الحكم الشيعي في جبل لبنان تمتد من جسر المعاملتين حتى حصن الأكراد. ويشار إليها في عقود إلتزام الحكام الشيعة في جبل لبنان شاملة المقاطعات التالية: حصن الأكراد، وعكار، والهرمل، والضنية، والزاوية، والكورة، وجبة بشري، والبترون، وجبيل، والمنيطرة، والفتوح.
وقد دفعه هذا التوصيف الشمولي إلى القول بأن ثورة 1685-1710 هي "جمهورية العصاة الحرة". لكن المرويات المحلية لم تشر إليها إلا عرضا، في حين تحدثت عنها الوثائق العثمانية والفرنسية. وقدم وثائق اصلية غنية ومتنوعة تشير إلى تفاصيل معاركها، وإلى مشاركة الأمير احمد المعني وأعوانه فيها، بالإضافة إلى مشاركة شيعة جيل عامل. وفي ربيع 1706 كانت الثورة لا تزال في أوج إستعارها في جميع المناطق الشيعية. وختم دراسته بنص من تقرير القنصل الفرنسي في صيدا بتاريخ 21 آذار 1717، جاء فيه:" إن شيخ الحماديين من شيعة علي يحكم جبل لبنان منذ ثلاثين عاما دون أن يتمكن باشوات الأتراك مهما بلغت قوتهم أن يحدوا من سلطته. أما إسماعيل، الشيخ الرئيسي الآخر للحماديين، فهو سيد البلاد الواقعة بين بيروت وطرابلس" (ص 526).
ختاما، قدم سعدون حماده في دراسته كما هائلا من الوثائق العائلية، والطائفية المحلية بالإضافة إلى بعض وثائق الأرشيف العثماني والأرشيف الفرنسي. وبذل جهودا كبيرة في مجال التوثيق والتحليل. لكنه بقي أسير النظرة الطائفية الوحيدة الجانب إلى تاريخ المقاطعات اللبنانية منذ بداية الحكم العثماني حتى معركة عين دارا عام 1711. تميزت دراسته بسمات خاصة غير متوافرة في كثير من الدراسات التي تناولت تاريخ الطوائف اللبنانية. وبعد أن إطلع على غالبية ما كتب من دراسات طوائفية سابقة، إستفاد من وثائقه الغنية ومصادره الأصيلة ليرسم صورة تاريخية واسعة وشمولية حول تاريخ المقاطعات اللبنانية.فدفع بالكتابة عن تاريخ الشيعة خاصة في جبل لبنان وبعلبك الهرمل، وعن دور الزعامة الشيعية خاصة من آل حماده وحرفوش إلى درجة متقدمة جدا وغير مسبوقة في إطار الرؤيا الطوائفية المعتمدة في تاريخ المقاطعات اللبنانية. لكن المنهجية الطائفية التي تعزل الطائفة عن محيطها الجغرافي والبشري بدت عاجزة عن توظيف هذا الكم الرائع من الوثائق الأصلية، وأضاعت على المؤلف فرصة تقديم دراسة شمولية عن تاريخ المقاطعات اللبنانية، بجميع طوائفها وإنتفاضات سكانها التي تشكل مجتمعة حجر الزاوية في كتابة تاريخ لبنان على اسس علمية وموضوعية.
¶ سعدون حماده: "الثورة الشيعية في لبنان 1685-1710"، "دار النهار"، بيروت 2012، 522 صفحة.
مؤرخ واستاذ جامعي لبناني |