التاريخ: كانون الأول ٢٠, ٢٠١٢
المصدر: جريدة الشروق المصرية
النساء والاستفتاء - نيفين مسعد
مهما كانت الرشادة السياسية لقرار المشاركة فى الاستفتاء أو مقاطعته، فإن القرار فى النهاية يظل قراراً شخصياً يعبر عن الإرادة السياسية الحرة لصاحبه أو هكذا يفترض. ومعنى هذا أنه يجب تمكين كل امرأة مسجلة فى كشوف الناخبين إذا قررت أن تدلى بصوتها فى الاستفتاء على الدستور، تمكينها من مباشرة هذا الحق دون أى تَعِلات تنفيذية أو إجرائية . لكن ما حدث يوم السبت 15 ديسمبر الماضى من تحايل على إرادة العديد من الناخبات بحرمانهن من التصويت كان استمراراً لنهج النظام السابق فى كتم الصوت النسائى المعارض، فمن منا ينسى تلك الصورة الشهيرة بالغة الدلالة لنساء يتسلقن سور لجنة انتخابية للإدلاء بأصواتهن فى الانتخابات البرلمانية لعام 2005 هرباً من حصار الأمن المركزى لمقر الاقتراع؟ قيل فى حينه إن إرادة هؤلاء الناخبات كانت تتجه للتصويت لمرشح جماعة الإخوان المسلمين. ما حدث أيضاً كان استمراراً لإدارة المرحلة الانتقالية التى تعاملت بغلظة متناهية مع المعارضة النسائية فسحلت وعَرت علناً ولأول مرة ست البنات، ومن عجب أن هذه الواقعة جاءت فى مثل هذا الشهر (ديسمبر) من العام الماضى.
 
وها هى الممارسات نفسها تستمر فى ظل « الرئيس المدنى المنتخب» فيتطاول أحد منسوبى جماعته على المناضلة اليسارية المخضرمة شاهندة مقلد ويحبس هتافها بكفه الغليظة،  ألا تبت يداه، ومع ذلك فإن الدستور الذى تروج له جماعة الرئيس ينص فى ديباجته على ما يلى « لا كرامة لوطن لا تكرم فيه المرأة،  فالنساء شقائق الرجال،  وشريكات فى المكتسبات والمسئوليات الوطنية» . يبدو أننا سنحتاج إلى فصاحة السيد الرئيس فى التعريف الإجرائى لمعنى كرامة الوطن وتكريم المرأة . بالطبع لم يكن المنع من التصويت على مشروع الدستور المشبوه حكراً على الصوت النسائى المعارض، فالأذى طال وما يزال كل أصوات المعارضين من الرجال،  لكن النساء هن موضوع المقال، وهن اللائى يفاجئن الغافلين المرة بعد المرة بأنهن أصلب وأوعى مما يتوقعون، وأنهن مدافعات عن حقهن الأصيل فى المشاركة السياسية مهما كان الثمن. المشاركة لا تنبع من الانتماء السياسى لفصيل دون غيره، بل هى تنبع من صفة المواطنة ذاتها، لكن الدستور الذى نص فى ديباجته على أنه « لا محاباة فى الحقوق والواجبات»،  أهدر واضعوه نصه على أرض الواقع من قبل حتى أن يتم تمريره بنعم،  فالتمييز ضد المعارضين حقيقة واقعة،  وتعطيل المشاركة السياسية فى الدوائر قليلة التأييد للتيار الدينى ورموزه قائم.
 
●●●
 
من الصباح الباكر اصطفت النساء فى طوابير الاستفتاء،  كثير منهن لا يملكن ترف التسلية بهذه الآلية الديمقراطية،  على ملامحهن علامات الانشغال بألف مهمة ومهمة يلقيها المجتمع الظالم فوق رؤوسهن،  وبينهن من يحملن أطفالاً لم يجدوا من يٌعنى بهم ساعة أو بضع ساعة إلا الأمهات أنفسهن،  تتخللهن تنويعات المجتمع فى الدين والطبقة والجيل والتعليم،  ومع ذلك فإنك تسمع من القيادية الإخوانية إياها قولها إن نساء النخبة لا يشبهن المجتمع، النخبة فى ظنها هى وحدها التى تعارض وما عداها يوالى ويطيع،  والمجتمع عندها تتحدد حدوده بحدود جماعتها وكأن مصر لا وجود لها قبل ثمانين عاماً. بين هؤلاء المصطفات فى الطوابير الطويلة نساء جئن لرفض دستور لا يجدن أنفسهن فيه لا كنساء ولا كمواطنات،  فبأى معيار تٌمَرَر كوتة العمال والفلاحين بليل فى الدستور وترفض كوتة المرأة إن كنا نتحدث عن فئات مهمشة فى الحالتين؟ دستور يتهرب من التزامات مصر الدولية عموماً وتجاه النساء خصوصاً،  يستنكف النص على تجريم الإتجار بالبشر والتعذيب فيما يجعل من كل عابر سبيل قيماً على ما يظنه هو مكارم الإخلاق، دستور يعطى الفقراء حقوقاً بلاغية ويمنح الرئيس سلطات واسعة حقيقية،  يعيد ترتيب المشهد السياسى على مقاس الرئيس وجماعته فيبقى الشورى على حاله بصلاحيات لم ينتخب لها فيما يعدل تشكيل المحكمة الدستورية ويقلص صلاحياتها،  يتخلص من المنافسين المحتملين فى الانتخابات البرلمانية المقبلة بل ويعيد الانتخاب وفق قانون الانتخابات الباطل الذى تسبب فى حل مجلس الشعب السابق. لكن بين الواقفات فى الطابور من لم يقرأن حرفاً فى الدستور وربما من لا يقرأن أى حرف أصلاً،  لكنهن هنا للتصويت بلا على استقواء الإخوان،  وعلى غلاء المعيشة المؤجل حتى تمر عاصفة الدستور وربما الانتخابات،  والأخطر على الاحتراب الداخلى الذى خطف زينة شباب هذا الوطن وأثكل أمهاتهم فى لحظة .
 
فى مواجهة هؤلاء النساء الرافضات مورست كل الحيل الممكنة حتى يتقلص معسكر (لا) وتثبت نظرية الأغلبية المزيفة،  الإغلاق المبكر للجان الفرعية،  تباطؤ عمليات التصويت بشكل ملحوظ،  عدم إدخال المقترعات إلى حرم اللجنة العامة (المدرسة) حتى تمام الحادية عشرة ثم إغلاق الأبواب فى وجه المنتظرات فى الخارج. وكالعادة قُدِمت كل التبريرات الساذجة التى يمررون بها القرارات السياسية هذه الأيام،  فلماذا لم يمدد تصويت الداخل كما تم تمديد تصويت الخارج؟ مرة أخرى سيف الإعلان الدستورى المزعوم. أما النساء أنفسهن فثابرن وصبرن ووقفن ساعات طوال،  من كان منا يتصور أن تبقى امرأة خارج بيتها حتى الحادية عشرة فى انتظار أن تدلى بصوتها فى استفتاء كل ما يحيط به يحمل على الاعتقاد بأنه أبعد ما يكون عن النزاهة ؟ من لا يصدق عليه بالرجوع إلى التقرير الذى أصدرته المنظمة العربية لحقوق الإنسان عن الجولة الأولى للاستفتاء،  وهى منظمة لا يرقى شك إلى بياناتها ولا تُحسب على أى تيار سياسى،  ويقول تقريرها إن العديد من الانتهاكات كانت « جسيمة» ويرجح أن « تؤثر على نتائج الاقتراع» ويحذر من « إشكاليات سياسية وقانونية غير عادية» . التقرير لا يتحدث عن تجاوزات لا تغير الاتجاه العام للتصويت لكنه يشير إلى انتهاكات تتلاعب بإرادة المواطنين،  ومع ذلك ظلت النساء ملتزمات الطابور. من كان يصدق أن تصوت نساء الغربية على ضوء الكشافات مع انقطاع التيار الكهربائى عن بعض اللجان العامة،  أو أن تخضن فى مياه الأمطار الكثيفة وهن يلحقن بذيل الطوابير فى لجان الاسكندرية حتى إذا ما فاض بهن الكيل على تباطؤ الإجراءات قطعن شارع سوريا احتجاجاً وتنديداً ؟ . من كان يصدق أن تتعالى هتافات النساء ضد رجل الإخوان القوى خيرت الشاطر الذى دخل للتصويت من الباب الخلفى لمدرسة طابا بمدينة نصر ؟ بالله عليكم كيف لمن يدخل من الأبواب الخلفية أن يحكم مصر؟
 
●●●
 
يانساء مصر العظيمات،  أنتن صاحبات السهم الأكبر فى نسبة الرفض المشرف والواعى للدستور المشبوه، وأنتن الباعثات للتفاؤل والمبطلات لكل رهان على أنكن أضعف بنياناً وأقل قدرة على الاحتمال،  سنعبر معاً يداً بيد هذه المرحلة الصعبة مهما طالت ونضع دستوراً يحررنا ويليق بثورتنا وسنقف يوماً ما فى طوابير جديدة لنختار ويُحتَرم اختيارنا ونقدم نموذجاً ملهماً لكل منطقتنا العربية التى تتطلع إلى تجربتنا بقلق كبير ولكن أيضاً ببعض الأمل .
 
 
 
أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة