التاريخ: كانون ثاني ١٠, ٢٠١٣
الكاتب:
المصدر: موقع المصري اليوم
ثورة يناير الاقتصادية لم تحدث بعد

كلما سمعت من يتحدث عن «الاستثمار الأجنبى» كمفتاح لتحسن حالة الاقتصاد أشعر بالانقباض. فهو كلام معناه أننا بعد الثورة نفكر فى الاقتصاد بالذهنية نفسها التى دمرت الاقتصاد قبلها، بل كانت أحد الأسباب الرئيسية للثورة. فحين تقوم فى مصر ثورة تكون العدالة الاجتماعية أهم أهدافها، يتحتم بالضرورة أن تصاحب تلك الثورة ثورة مماثلة فى الرؤية الاقتصادية، بحيث تسعى لإيجاد حلول مبدعة تسمح بالفكاك من الشبكة المعقدة، التى تم إرساؤها عبر سنوات طويلة، أدت إلى فرم مصر فى عجلة النظام الاقتصادى العالمى الجائر، الذى لا يسمح بعدالة اجتماعية، ولا حتى باحترام آدمية البشر.

 

فالقوى الاقتصادية العالمية خلقت شبكة تحكم معقدة من الآليات والقواعد والأفكار التى تفرغ الديمقراطية من محتواها عبر تكبيل الاقتصاد، وإخراجه من المجال الذى تتحكم فيه المؤسسات المنتخبة. وحكاية «الاستثمار الأجنبى» تلك هى إحدى الآليات التى تقوم عليها تلك الشبكة. فهى فكرة تزعم أن الاستثمار الأجنبى سوف يخلق ثروة جديدة «ستتدحرج» منافعها وخيراتها إلى أسفل السلم الاجتماعى حتى تصل للفقراء. لكن المسكوت عنه هنا هو أن مثل تلك المنافع لا يمكن أن تطال الفقراء دون ضوابط وقواعد ترسيها الدولة المضيفة، وأن تلك الضوابط هى بالضبط المحظور فى تلك المنظومة العالمية. والدولة حين تفتح أبوابها للاستثمارات الخارجية دون ضوابط فإنها تخضع طوال الوقت لابتزاز السوق العالمية وعقابها. فهى لابد أن تخلق «مناخاً مواتياً للاستثمار الأجنبى»، وهو ما لا يقتصر على إزالة العوائق، وتحقيق الاستقرار كما يقال زوراً. فمن أهم شروط ذلك «المناخ» الامتناع أصلاً عن الحديث عن عدل اجتماعى أو إعادة توزيع بأى شكل من الأشكال.

 

ففى جنوب أفريقيا مثلاً، حين تولى مانديلا الحكم بعد الثورة على الأبارتيد، كان الرجل كلما تحدث ولو تلميحاً عن تطبيق «ميثاق الحرية»، ميثاق الثورة، الذى ينص على العدالة الاجتماعية، وجد نفسه أمام عقاب بالغ القسوة للسوق، من انهيار البورصة لانخفاض العملة بنسب مفزعة. أما وأن مصر تعانى اليوم أزمة اقتصادية، فإن الاستثمار الأجنبى سيكون على الأرجح عبر تخفيف الضوابط والقواعد وليس العكس، بما يعنى سباقاً نحو الأسفل فى حقوق العمال بل حقوق الدولة. لكن حدوتة الاستثمار الأجنبى مجرد واحد من مفردات شبكة التحكم. فالمطلوب دوليا وباختصار ألا تنهار مصر وألا تنهض فى الوقت نفسه. فالمطلوب إنقاذها مع إبقائها دوماً على حد الكفاف. وما يأتى على مسامعك الآن يسير فى ذلك الاتجاه.

 

 فالهوس بالجانب المالى والنقدى فقط من الأزمة هو عدوى ينقلها صندوق النقد أينما ذهب. والتركيز على عجز الموازنة مع وقف الدعم وفرض سياسات اقتصادية تقشفية كلها روشتة لـ«طبيب خايب» ثبت فشلها فى دول لا حصر لها حول العالم. وهى سياسات معادية للحريات والديمقراطية لأنها تتطلب نظاماً ديكتاتورياً يفرضها فرضاً على شعبه بالحديد والنار، تماما كما فعل بينوشيه فى تشيلى وبوريس يلتسين فى روسيا.

 

والحقيقة أن الثورة التى لم تحدث فى الاقتصاد هى ثورة فكرية مبدعة فى جوهرها، وهى ستواجه مقاومة دولية بالغة التطرف، ويستحيل مواجهة تلك المقاومة الشرسة دون توافق وطنى جامع حول ذلك الفكر الجديد وإرادة شعبية قوية. وهى كلها شروط ليست متوافرة فى اللحظة الراهنة. لكن الموجود حالياً هو سياسات الإخوان الاقتصادية، التى تنبع من رؤية تدور فى فلك تلك الشبكة الجهنمية ذاتها. وعليه، فالمطلوب، حتى تتوافر شروط الثورة الاقتصادية، الضغط بكل قوة لئلا يتم تكبيل مصر بخطوات طويلة الأمد، ولنحترم حق الأجيال الجديدة فى تحقيق شروط الثورة الاقتصادية المنشودة من فكر اقتصادى مبدع وإرادة شعبية تدعمه.