التاريخ: شباط ١٩, ٢٠١١
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
 
مصر 2005 - 2011: مبارك فعل عكس ما طلبنا - كوندوليزا رايس

فيما كنت أشاهد حسني مبارك يخاطب الشعب المصري الأسبوع الماضي، فكّرت في نفسي "كان يمكن ألا تكون الأمور على هذا النحو".
في حزيران 2005، عندما كنت وزيرة للخارجية، وصلت إلى الجامعة الأميركية في القاهرة لإلقاء كلمة في مرحلة كانت تشهد زخماً متزايداً لمصلحة التغيير الديموقراطي في المنطقة. وقلت انطلاقاً من روحية خطاب التنصيب الثاني الذي ألقاه الرئيس جورج دبليو بوش، إن الولايات المتحدة ستقف إلى جانب الأشخاص الذين ينشدون الحرية. كان هذا إقراراً بأن الولايات المتحدة سعت في الشرق الأوسط أكثر منها في أي منطقة أخرى، إلى إرساء الاستقرار على حساب الديموقراطية، ولم تحقّق أياً من الأمرَين. وكان تأكيداً لاعتقادنا بأن الرغبة في الحرية هي شعور كوني – ليس شعوراً غربياً بل إنساني – وبأن تحقيق تلك الرغبة هو السبيل الوحيد الكفيل بإرساء استقرار حقيقي.


بدا لبرهة أن القيادة المصرية تستجيب، وهي لم تكن تستجيب لنا بقدر ما تستجيب لشعبها الذي كان يطالب بالتغيير. كان المصريون قد شاهدوا انسحاب الجيش السوري من لبنان وتشكيل حكومة جديدة هناك، والانتخابات الحرة في العراق مع الإبهام المغمَّس بالحبر الأرجواني، وبروز قيادة جديدة في فلسطين. وبعد بضعة أشهر، أجريت انتخابات رئاسية أكثر حرية من سابقاتها، وإن لم تكن حرة تماماً، في مصر عقب سجال مدني محتدم في المقاهي المصرية وعبر الإنترنت. صحيح أن حزب مبارك حقّق نصراً كاسحاً، لكن بدا أن المصريين عبروا نقطة اللاعودة.


لكن بعد ذلك بوقت قصير، تراجع مبارك. فكانت الانتخابات التشريعية مهزلة، وظل العمل قائماً بـ"قانون الطوارئ" البغيض، وزُجّ المعارضون على غرار أيمن نور في السجون من جديد. فبدأ الغضب يعتمل في نفوس المصريين، وانفجر في نهاية المطاف في ميدان التحرير. والعبرة التي يجب أن يستخلصها الباقون في المنطقة هي التعجيل في الإصلاحات السياسية والاقتصادية المؤجَّلة منذ وقت طويل.


لقد رحل نظام مبارك. وثمة مخاوف مفهومة بأن الأمور قد لا تسير على ما يرام. يمثّل "الإخوان المسلمون" القوة السياسية الأكثر تنظّماً في مصر. كان مبارك يردّد دائماً أن الخيار هو بينه وبين الإخوان، وطبّق سياسات جعلت ذلك الكلام واقعاً فعلياً. ففيما كان عدد كبير من القادة السياسيين النزيهين والأكثر علمانية يتعرّضون للتعذيب والسجن على يد النظام، كان "الإخوان المسلمون" يتنظّمون في المساجد ويؤمّنون خدمات اجتماعية لم يكن النظام قادراً على توفيرها. سوف يستغرق الأمر وقتاً قبل أن يُرسى التوازن وتتساوى حظوظ الجميع.


تعرف الولايات المتحدة أن الديموقراطية هي عملية طويلة، وهي أحياناً غير منظَّمة ومثيرة للاضطرابات وحتى فوضوية. لا أقصد التقليل من شأن التحدّي الذي يطرحه مستقبل ملتبس في مصر على المصالح الأميركية. فقد حافظ مبارك، على الرغم من كل إخفاقاته، على سلام بارد مع إسرائيل أصبح ركيزة من ركائز السياسة الخارجية المصرية. كما أنه دعم قيادة فلسطينية معتدلة وساعد على إقصاء "حماس". لكنه لم يستطع قط الذهاب في سياسته هذه حتى النهاية لأنه كان يخشى "الشارع". لا يعرف السلطويون شعبهم أو يحترمونه، وهم يخافون منه. تعرّضت الولايات المتحدة لقدر كبير من اللوم العلني من أصدقاء دعموا سياساتنا سراً، فكانوا بذلك يُذكون الكراهية ضدنا فيما يحمون أنفسهم.


لا يمكننا أن نملي خيارات الحكومة المصرية المقبلة في السياسة الخارجية. لكننا نستطيع التأثير فيها من خلال روابطنا مع الجيش وصلاتنا بالمجتمع المدني والوعد بتوفير المساعدات الاقتصادية وتعزيز التجارة الحرة بين البلدين من أجل تحسين حياة الشعب المصري.


الخطوة الأهم الآن هي التعبير عن الثقة بمستقبل مصر ديموقراطية. المصريون ليسوا الإيرانيين، ولسنا في عام 1979. المؤسسات المصرية أقوى، والعلمانية أكثر رسوخاً في مصر. على الأرجح أن "الإخوان المسلمين" سيتنافسون للحصول على تفويض من الناس في انتخابات حرّة ونزيهة. يجب إرغامهم على الدفاع عن رؤيتهم لمصر. هل يسعون إلى فرض الشريعة؟ هل يريدون مستقبلاً من الهجمات الانتحارية والمقاومة العنيفة لوجود إسرائيل؟ هل سيستعملون إيران نموذجاً سياسياً؟ أم تنظيم "القاعدة"؟ كيف ستستحدث مصر وظائف لأبنائها؟ هل يتوقّعون تحسين حياة المصريين عبر قطعهم عن المجتمع الدولي وتطبيق سياسات تهدف إلى زعزعة استقرار الشرق الأوسط؟
أثار "فوز" حركة "حماس" في الانتخابات عام 2006 وقوّة "حزب الله" في لبنان الكثير من الجدل والمخاوف. هناك عوامل عدّة تمنح هاتين الحالتين خصوصيّتهما. لكن حتى في هذين المثلَين، يتخبّط المتطرّفون عند مواجهة تحدّيات الحكم.


يعود للمصريين أن يقرّروا ما هو المسار الذي ستسلكه الأمور. كثرٌ بينهم شباب ومفعمون بالحماسة الثورية. سوف تطرح عقائد الإسلام السياسي الراديكالي تحدّياً أمام السياسة الديموقراطية. تدور رحى هذه المعركة في مختلف أنحاء المنطقة، في العراق ولبنان ولا سيما في تركيا حيث أتاحت العلمانية المطبَّقة منذ عقود المجال أمام استيعاب المتديّنين في المساحة العامة. وفي مصر، سوف يكون على المسيحيين وأتباع الأديان الأخرى أن يجدوا أيضاً مكاناً وصوتاً لهم.


لا شك في أن الأشهر لا بل السنوات المقبلة ستكون مضطربة. لكن ذلك الاضطراب أفضل من الاستقرار الزائف الذي تدّعيه الأوتوقراطية، حيث تجد قوى الشرّ موطئ قدم في ثغرة الحرية التي يتم من خلالها إسكات الأصوات الديموقراطية.


لسنا في عام 1979، لكننا لسنا أيضاً في عام 1989. أطلق سقوط الشيوعية العنان لوطنيين لطالما اعتبروا الولايات المتحدة "منارة للحرية". بيد أن تاريخنا مع شعوب الشرق الأوسط مختلف جداً. ومع ذلك، يتعيّن على الولايات المتحدة دعم قوى الديموقراطية، ليس لأنها ستكون صديقة أكبر لنا بل صديقة أكبر لشعوبها.


لا تتّفق الحكومات الديموقراطية، بما في ذلك حلفاؤنا الأقرب إلينا، معنا دائماً. لكنها تشاطرنا إيماننا الأكثر جوهرية، ألا وهو أن الشعب يُحكَم بالتراضي. هذا صحيح اليوم بقدر ما كان صحيحاً عندما قلت عام 2005 إن الخوف من الخيارات الحرّة لا يمكن أن يبرّر بعد الآن إنكار الحرية. ليس أمامنا سوى خيار واحد: أن نثق بأنه في المدى البعيد للتاريخ، ستكون تلك المبادئ المشتركة أهم من الاضطرابات المباشرة التي تلوح في الأفق، وفي نهاية المطاف، سوف يخدم ذلك مصالحنا ومثلنا العليا على أكمل وجه.

 

"واشنطن بوست"
ترجمة ن. ن.

(وزيرة الخارجية الأميركية من 2005 إلى 2009)