التاريخ: كانون ثاني ٦, ٢٠١٣
المصدر: جريدة الحياة
2013 في تونس: سنة كل المخاطر - محمد الحداد
تستقبل تونس السنة الجديدة بمزيج من الأمل والتوجس. لقد طرحت على نفسها منذ آذار (مارس) 2011 تحقيق أهم معالم الانتقال الديموقراطي الناجح، وهي الدستور الوفاقي، والعدالة الانتقالية، وتصفية تركة النظام البائد ومحاكمة رموزه، والتعويض للضحايا، الخ. وقطعت أشواطاً في كل هذه المجالات، لكن التقدم ظلّ بطيئاً جدّاً لا يلبّي تطلعات المواطنين. وستكون سنة 2013 سنة الاختبار والحسم، فإما أن تشهد تنظيم انتخابات تؤدي إلى قيام سلطة مستقرة، أو أن تفشل في تنظيمها، أو تنظمها بطريقة سيئة كما حدث في مصر، فيمتدّ الاحتقان الحالي إلى سنوات أخرى، بما لن يتحمله اقتصاد قائم أساساً على الخدمات، وقد شهد منذ الثورة ارتفاعاً خطيراً في نسب العجز التجاري والتضخم والمديونية.
 
ينتظر التونسيون نص الدستور الجديد الذي لم يكن يحتاج لكل هذه الفترة كي يخرج إلى النور، لا سيما أن مسودّته المعروضة حالياً لا تتضمن أفكاراً عبقرية، فهو دستور عادي جدّاً بكل المقاييس، مع العلم أن القوى السياسية الأساسية كانت قد وقّعت على وثيقة تلتزم بإنهائه في مدة سنة على أقصى تقدير، وقد انتهت هذه المدة يوم 23 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. ويتضح أيضاً من خلال المسودة المعروضة حالياً أن نصّ الدستور لم يأت نتيجة الوفاق، بالمعنى الإيجابي للكلمة، وإنما عكس المفاوضة السياسية القائمة على حجب القضايا الأساسية بواسطة تعابير فضفاضة والجمع بين أحكام متناقضة. ومن مخاطر هذا الوضع أن يظلّ الدستور محلّ تجاذب وتنازع في التأويل حتى بعد إقراره.
 
وسيشهد عام 2013 اختباراً لمشروع العدالة الانتقالية، وهو مشروع مهمّ جدّاً لتفادي رغبات الانتقام والتنكيل من جهة ومحاولات التنصّل عن مسؤوليات الماضي من جهة أخرى. ومن المؤسف هنا أيضاً أن يكون هذا المشروع قد تأخر كثيراً، وأنه سيرى النور في سنة انتخابية، فسيصبح حتماً موضوعاً للتجاذب السياسي والحزبي. ومما يزيد الطين بلّة أن العدالة العادية لم تشهد بدورها الإصلاحات المنتظرة، وفشلت وزارة العدل في وضع آلية انتقالية مقبولة، وأخذ وزير العدل على عاتقه مهمة الإصلاح بقرارات فردية، ما جعل قراراته محلّ أخذ وردّ، بسبب انتمائه السياسي، ثم انتهت به إلى مواجهة ضغوط شديدة من أطراف متباينة الرؤى والمصالح، جعلته عاجزاً عن اتخاذ القرار المناسب.
 
لقد أدّى تراجع ثقة التونسيين في العدالة عامة إلى تنامي ظاهرة الاحتجاجات بكل الوسائل، من قطع الطرقات إلى محاولات الانتحار مروراً بإضراب الجوع والامتناع عن أداء الضرائب. وثمة فشل واضح في مواجهة المهام الاجتماعية المستعجلة، مثل التعـــويض لأســر الشهداء ولجرحى الثورة، أو إقناع المنــاطق والفئات الأكثر بؤساً بأن أوضاعها ستتطوّر للأحسن. ولقد قامت الثورة التونــسية بفضل الشـــباب المحروم من العمل والحرية، لكنها تحوّلت إلى أيدي قيادات هرمة تفرغت لتصفية نزاعات قديمة، واستغلت قضايا كثيرة لحجب الأهداف الحقيقية للثورة.
 
وأخطر ما سيواجه هذه الطبقة السياسية الهرمة عام 2013، أن جزءاً مهماً من المجتمع أصبح غير مقتنع بالعملية السياسية برمتها، وبالطبقة السياسية بشقيها الحاكم والمعارض، ما يجعل الكثير من الشباب فريسة سهلة للمجموعات الإرهابية أو تجار المخدرات أو العصابات الإجرامية، فيما يفضل الكثير من التونسيين الأسوياء النأي بأنفسهم عن العمل السياسي الذي أصبح قائما على التهريج والعنف والضحالة الفكرية.
 
وإذا تأملنا في الوضع السياسي، فإنه يؤذن أيضاً بتضخم الاحتقان. فقد انتهى إلى استقطاب ثنائي حادّ، طرفه الأول حركة «النهضة» وقد تراجعت جماهيريتها لكنها لم تفقد قدراتها التنظيمية والبشرية، وتراجعت جماهيرية حليفيها في الحكومة، اي حزبي «التكتل» و «المؤتمر»، لكنها تظلّ قادرة على كسب ودّ العشرات من الأحزاب الصغيرة الأخرى، ترضى على هذا يوماً وترضى على ذاك يوماً آخر، بما يجعلها المتحكمة الفعلية والوحيدة في القطب الأوّل. أما القطب الثاني للحياة السياسية فمحوره السيد الباجي قائد السبسي، الوزير الأول في الحكومة الانتقالية الأولى، الذي يحظى بشعبية كبرى، لكن حركة «النهضة» تتهمه بأنه حوّل حزبه «نداء تونس» إلى واجهة لعودة الحزب الحاكم سابقاً.
 
نظرياً، كان يمكن لهذا الاستقطاب أن يفيد الديموقراطية، فتشهد الانتخابات القادمة تنافساً بين حزبين كبيرين، مثل تنافس الحزبين الديموقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة الأميركية. لكن يبدو أن حركة «النهضة» وحلفاءها يرغبون في حسم الأمر بطريقة أخرى، وذلك بصياغة قانون للعزل السياسي قدّ على مقاس الغالبية الحالية، فمن غرائبه مثلاً أنه يقصي أعضاء مجالس النواب في عهد بن علي (كان السيد السبسي نائباً عام 1989) لكنه لا يقصي أعضاء مجالس المستشارين (الشيوخ)، لأن منهم من يخدم اليوم الحكومة الحالية أو يتحالف مع حركة النهضة!
 
أخيراً، ثمة عنصر يجدر التحذير منه وهو الضبابية المفرطة التي أصبحت تحيط بكل أصناف المعلومات، وهي تجعل المحلّل المتمرّس غير واثق بأبسط المعطيات، فضلاً عن المواطن العادي. فكل الأرقام التي تقدّم رسمياً هي محلّ شك بل تختلف بين تصريحات مسؤول حكومي وآخر. والإعلام أصبح في الغالب رجع صدى للإشاعات الكثيرة التي تتنافس على إطلاقها السلطة والمعارضة. والشبكات الاجتماعية التي اضطلعت بدور رئيسي في نجاح الثورة، تحوّلت إلى عامل تمزيق للمجتمع، لأنها خزان للمغالطات والإشاعات، لصالح السلطة أو لصالح المعارضة.
 
ستتحوّل تونس عام 2013 من مرحلة وضع النصوص الانتقالية إلى تطبيقها، ويخشى في عملية التطبيق هذه أن تكون عسيرة وتفتح الباب أمام أنواع شتى من الاضطرابات والمخاطر. ومع ذلك، من المهمّ أن نضيف أن تونس تحتفظ إلى حدّ الآن بعناصر إيجابية مهمّة، منها التجانس الداخلي وطابع السلمية اللذان يميزان شعبها، ومنها ابتعاد المؤســـسة العسكرية عن كل التجاذبات السياسية ومحافظتها إلى حدّ الآن على نظامها وانضباطها. فتونس ليست مهدّدة بأي شكل من أشكال الحروب الأهلية، لكن من الممكن أن يكون عام 2013 مخيّباً لآمال كل الذين راهنوا على انتقال ديموقراطي نموذجي في بلد ميلاد الربيع العربي، وأوّلهم المواطن التونسي الذي فترت حماسته للثورة وتراجع إيمانه بالغد الأفضل الموعود.