لسنا في حاجة إلى إثبات أن هناك في مصر المحروسة اليوم انقساماً سياسياً خطيراً في نتائجه بين المعسكر الليبرالي اليساري الثوري والجبهة الإخوانية السلفية.
بغض النظر عن محاولات الجبهة الإخوانية السلفية تزييف طبيعة الصراع السياسي بين الفريقين المتصارعين، بزعم أن الجبهة الإخوانية السلفية- كما رفعت شعاراتها في تظاهراتها الحاشدة- تدافع عن الشرعية والشريعة، وكأن الفريق المضاد لا شرعية له وأنه- أكثر من ذلك- ضد الشريعة، فمما لا شك فيه أن هناك أسباباً حقيقية أدت إلى هذا الانقسام الذي شق الشعب تيارين متضادين. ولعل أهم هذه الأسباب قاطبة السعي الدؤوب لجماعة الإخوان المسلمين - متحالفة في ذلك مع حزب النور السلفي- للهيمنة المطلقة على مجمل الفضاء السياسي المصري بحيث لا تترك للأطياف السياسية المعارضة أي مساحة لكي تمارس السياسة فيها وفقا ًلتوجهاتها واقتناعاتها.
حدث ذلك مباشرة بعد أن حصل حزب الحرية والعدالة الإخواني وحزب النور السلفي على الأكثرية في مجلسي الشعب والشورى. وهذه الأكثرية وليست الغالبية هي التي أغرت جماعة الإخوان المسلمين بالذات – باعتبارها أكثر تنظيماً من السلفيين على اختلاف تياراتهم- بممارسة نوع ذميم من غرور القوة!
أرادوا أولاً أن تكون غالبية أعضاء اللجنة التأسيسية لوضع الدستور من الإخوان والسلفيين، وبعد أن أبطل القضاء الإداري هذه اللجنة تشكلت لجنة أخرى بالعوار القانوني نفسه مع بعض التعديلات التي تمثلت في إضافة بعض رموز الليبراليين إلى عضويتها.
ومع ذلك أصرت قيادة اللجنة الممثلة بالمستشار الغرياني على إدارة المناقشات بطريقة متعسفة لم تسمح للأعضاء من غير ذوي الاتجاهات الدينية بالتعبير عن آرائهم بحرية، أو قبول الاقتراحات التي قدموها. ولذلك انسحب العشرات من عضوية اللجنة، وبالتالي أصبحت شرعيتها مشوبة، مما أثر على الصورة المهتزة التي صدرت بها مسودة الدستور الخلافية التي لم تقبل من ملايين المصريين، كما أثبتت نتيجة الاستفتاء على الدستور.
ومعنى ذلك أن الدستور لم يصل قبوله إلى النسبة التي ينبغي التي ألا تقل عنها اي الثلثين على الأقل من عدد الناخبين. وأيا ما كان الأمر، تستعد جماعة الإخوان المسلمين بعد إعلان النتيجة لتنفيذ الخطة الموضوعة والتي تتمثل بممارسة مجلس الشورى مهمة التشريع وهو المطعون في تشكيله، وذلك بعد تعيين الأعضاء التسعين بقرار جمهوري وهم في غالبيتهم من الإخوان والسلفيين والمناصرين للتيار الديني من أعضاء اللجنة التأسيسية.
ومعنى ذلك أن هذا المجلس بغالبيته الإخوانية السلفية سيصدر تشريعات تحقق أهداف جماعة الإخوان في "أخونة" الدولة وأسلمة المجتمع، بغير معارضة كان يمكن أن تكبح جموح جماعة "الإخوان" في استئثارها بوضع التشريعات التي ستؤثر حتماً على الانتخابات البرلمانية المقبلة ما دام المجلس سيصدر قانون تنظيمها. وفي تقديرنا أن المشهد السياسي الذي يسوده الانقسام في الوقت الراهن وسواء سعت الجبهة الليبرالية بالوسائل الديموقراطية السلمية لإسقاط الدستور، أو في حال قبولها له مرغمة ودخولها في الانتخابات البرلمانية المقبلة، فإن الاستقرار السياسي اللازم للتقدم من الموقف السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي المتردي لا يمكن أن يتحقق إلا بتوافر عدد من الشروط الأساسية.
أول هذه الشروط التي لها أسبقية مطلقة هو إعادة بناء مؤسسات الدولة الأساسية التي حاولت قوى متعددة وفي مقدمها جماعة الإخوان المسلمين هدمها بإتباع أساليب قانونية مرفوضة، أو تنظيم تظاهرات فوضوية تخريبية ضد المؤسسات القضائية وفي مقدمها المحكمة الدستورية العليا.
والنموذج الأبرز لعدوان رئيس الجمهورية الدكتور محمد مرسي على استقلال السلطة القضائية هو المهزلة الخاصة بالسعي المتواصل الذي خاب لإقالة النائب العام المستشار عبد المجيد محمود، مرة بتعيينه سفيراً بالفاتيكان حتى يغادر مجبراً موقعه، ومرة أخرى بعد سحب هذا القرار المعيب بإيراد نص في الإعلان الدستوري الباطل ترتب عليه إقالة النائب العام. وأسوأ من ذلك كله تعيين نائب عام ينتمي – في ما يبدو- إلى الإخوان المسلمين ورفض جموع القضاة ووكلاء النيابة هذا التعيين الباطل. غير أن أخطر عدوان على استقلال القضاء هي التظاهرات التي نظمتها جماعة الإخوان المسلمين ضد المحكمة الدستورية العليا ومحاصرتها ومنع قضاتها من دخول مبنى المحكمة، في الوقت الذي كان يُستفتى فيه الشعب على الدستور. ومعنى ذلك أن المحكمة العليا التي تحمي الدستور محاصرة وعلقت جلساتها إلى أجل غير مسمى، وفي الوقت نفسه يدفع الشعب دفعاً إلى التصويت على الدستور المعيب.
لا مجال لمواجهة هذا الانقسام السياسي إلا بإعادة الهيبة والاحترام لهيئة الشرطة وللسلطة القضائية ومنع العدوان على استقلال القضاء والتجريم الصريح للتظاهرات التي تحاصر المحاكم أياً كانت أو النيابات، لإرهاب القضاة ووكلاء النائب العام. ماذا بقي من الدولة إذا كان قضاؤها أصبح مستباحاً بتشجيع من جماعة الإخوان المسلمين التي تمثل الآن السلطة الحاكمة؟
ومن ناحية أخرى لابد من تشريع ينظم التظاهرات والاعتصامات حتى لو ارتفعت الشعارات المزعومة: "سلمية سلمية"، وذلك لأنه في كل مرة تجتمع فيها حشود جماهيرية هائلة لابد أن تتحول المظاهرة "دموية دموية" في سياق لا تستطيع فيه قوات الأمن ولا حتى القوات المسلحة السيطرة على هذه الألوف المزيفة.
أنظر مثلاً الى التظاهرات أمام قصر الاتحادية وكيف وقع فيها عشرات المصابين وأنظر الى حصار الجماعات السلفية الغوغائية لمدينة الإنتاج الإعلامي وإرهاب الإعلاميين والشخصيات العامة. هل هذا سياق يمكن أن تمارس فيه الديموقراطية؟ وهل يمكن حقاً في ظل حالة الاحتقان السائدة وبروز ميليشيات تمارس العدوان على المعارضين القيام بالمهمة العاجلة المتمثلة بالاستقرار الأمني والسياسي تمهيداً لإنقاذ الدولة من الإفلاس الاقتصادي، والبدء بالتحول التدريجي من السلطوية الخانقة إلى الديموقراطية بآفاقها المفتوحة؟
هذا نداء موجه لكل الفرقاء السياسيين. لقد أخطأتم جميعاً وبلا استثناء في حق المصلحة العليا للوطن بالإفراط في حشد التظاهرات المليونية هنا وهناك بسبب وبدون سبب وبدون أي سيطرة عليها، وبالغتم- خصوصاً جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين - في استعراضات القوة الغاشمة وهي ضد القيم الديموقراطية.
|