ليس من خيار أمام المثقف إلا الانتماء إلى أحد التيارين المتصارعين على السلطة، التيار المدني المفترض أنه لا يعتمد على ميليشيات عسكرية أو إيديولوجية بأطيافه المتعددة من ليبيرالية وعلمانية ويسارية وغيرها، والتيار الديني ومتفرعاته من "إخوان" إلى سلفيين وأنصار شريعة وغيرها، بميليشياته شبه العسكرية وثوار شاركوا في الثورة ورفضوا تسليم اسلحتهم والانضواء تحت راية الجيش أو الشرطة الوطنيين بعد سقوط النظام.
بقاء المثقف دون دخول حلبة أحد التيارين السابقين يضعه في خانة المثقف السلبي الذي تدور حوله علامات استفهام، كفرضية أنه من منتظري انتصار أحد التيارين كي يجد في المنتصر الحظوة. بعد سقوط النظام واعلان تحرير البلاد من ديكتاتورية القذافي تشكلت أحزاب سياسية كثيرة تفتقر إلى التجربة فجاء أداؤها باهتا وبدائيا جدا مقارنة بالديموقراطيات العتيدة كلبنان وتركيا.
نرى هذه الأحزاب تنقسم اثنين: احزاب تنتمي إلى التيار الإسلامي ويشكل تيار "الإخوان" فيها القوة الكبرى من خلال حزب "البناء والعدالة" الذي حصل على الترتيب الثاني في انتخابات المؤتمر الوطني الأخيرة. وأحزاب أخرى ليبيرالية وعلمانية ويسارية بعضها قزمي جدا اجتمع أكثرها في كيان اسمه تحالف القوى الوطنية الذي حصل على الغالبية في المؤتمر الوطني. لكن لأسباب عدة لم ينجح في تشكيل الحكومة أو تكوين غالبية بسبب النواب المستقلين الذين يتبعون أحزابا أخرى. أتوقع أن تحدث أزمة وصراعات بسبب الدستور مثلما حدث في مصر منذ أيام. يريد كل تيار سياسي أن يدس أنفه في الدستور ويلوي رقبته ناحيته بغض النظر عن مصلحة الشعب الذي فجر ثورة وانتزع حريته.
الكثير من الأقوال نسمعها هنا وهناك حول الأحزاب السياسية التى تدير ليبيا الآن وحةل تبعيتها ومصادر تمويلها. يقال إن التيار الإسلامي تموله قطر، والتيار الليبيرالي تموّله الإمارات العربية. لكلٍّ من هاتين الدولتين، بحسب ناشطين سياسيين، أطماع في ليبيا نظير ما قدمتاه من دعم مادي وسياسي ولوجستي أثناء الثورة، حتى ان الشارع الآن منقسم بينهما.
أقاويل كثيرة في الـ"فايسبوك" حول شراء خليجيين من خلال وسطاء ليبيين أراضي زراعية خصبة في الجبل الأخضر الليبي وبأسعار مغرية، مستغلين الفوضى الإدارية حيث القضاء غير مفعّل، ولا تزال مؤسسات الحرس البلدي والشرطة والجيش في حالة سبات. التحذيرات كثيرة حول هذا الموضوع الذي سيتسبب بمشكلات تتعلق بسيادة الدولة مستقبلا، وتستدعى الحال الفلسطينية وبيع الأراضي لليهود، والحال الليبية قبيل تعرض البلاد للاحتلال الايطالي عام 1911. الفارق أن للريال القطري والدرهم الإماراتي وقعهما الذي لا يقاوم في ظل هذا الزمن الحرج الذي تعيشه ليبيا.
يمكن تسجيل ملاحظات تدعو إلى الاستغراب. فبالرغم من أن الشعب أعلن ثورة واجتث النظام الديكتاتوري إلا أنه لم يتبوأ مكانه المستحق بفضل ثورته. الدولة الآن يحكمها رجال سبق أن عملوا مع القذافي، ومعظم من يشكل الوزارات يحمل جنسية أوروبية أو أميركية يقدم إليها الولاء أولا قبل بلاده الأم. بل أن بعض هؤلاء الساسة يعتبر أن الشعب الليبي غبي ولا يمتلك كفاءات سياسية أو علمية تمكنه من إدارة البلاد. الغريب أن هؤلاء الساسة الذين كانوا يعارضون القذافي من مكان آمن وعن بعد ووسط دعم غربي ودولي لا محدود، عندما يشكلون حكومة أو يعينون سفراء أو مديرين، غالبا ما يختارون شخصيات من ليبيي الخارج معظمهم لا يفقه شيئاً في الشأن الليبي. بينهم من لا يعرف حتى الكتابة والتحدث بالعربية بصورة مقبولة مما يجعل ليبيي الداخل والثوار يعيشون في حال تذمر وضيق وعدم رضا ممَا آلت إليه ثورتهم التي سرقها زمرة من غسلة الأكواب والصحون ومن الخونة الذين خانوا ولي نعمتهم القذافي. هذا يجعل خيانتهم للشعب لصالح الغرب واردة جدا. فالخيانة في النهاية واحدة وهي أن تكون معي وأضع فيك ثقتي لكنك تنقلب عليَّ عندما أعيش ضيقا أو ضنكا.
هناك حسنة واحدة في الثورة الليبية ينبغي أن نذكرها وهى أنه كلما حدثت حركة لإحياء حكم القذافي أو التمرد على الثورة في مدينة أو قرية أو صحراء، فإن ذلك لا يمر مرور الكرام ولا يُترك حتى يستفحل. فكل الأطياف السياسية والثوار يقفون وقفة رجل واحد أمام الخطر المحدق والآذن بعودة الديكتاتورية.
منغصات كثيرة تهدد ثورة ليبيا. ومن هنا ينبغي للمثقف أن يقوم بواجبه ودوره بحيادية ومهنية. يمكنه أن ينحاز إلى أحد الطرفين، لكن ينبغي أن يؤدي دوره بموضوعية، وإقصاء أيٍّ من التيارين لن يكون لصالح الديموقراطية. بل الصحيح محاورته والوصول معه إلى نقاط اتفاق ومساعدته على قبول الطرف الآخر والانخراط في لعبة الديموقراطية بشفافية من خلال التداول الطبيعي للسلطة. فالمنافسة تنتهي بإعلان الفائز. وينبغي للمثقف أن يساعد في انتشار الوعى وتطوير التعليم وإطلاق البرامج الثقافية التي ترفع من المستوى الثقافي للفرد كي تكون له رؤية تبعده عن الحال التي يعيشها معظم الناخبين شبه الأميين.
دمّر القذافي التعليم طوال 42 عاماً، فلا تستغرب الآن البتة أن تجد مهندساً أو طبيباً ليبياً لا يجيد الكتابة ولا القراءة. كان التعليم في زمنه هشا جدا ومعظم شهادات الدكتوراة والماجستير وخصوصاً التي يتم الحصول عليها من خارج ليبيا مشتراة بالمال والهدايا والرشاوى وحتى بالدعارة أحيانا. وامتدت هذه الحال إلى أسرة الديكتاتور حيث اشترى ابنه سيف الإسلام شهادة دكتوراه من بريطانيا ويقال إن أحد ساسة الثورة الكبار الآن كان كتب له الأطروحة. نلاحظ جدا أن أكثر الحاصلين على شهادات من خارج ليبيا لا يمكنهم العمل بهذه الشهادات في دول أخرى ولا في الدولة المانحة.
لا يمكن ليبيا أن تنهض من دون الاهتمام بالبنية الثقافية العامة من تعليم وانفتاح على العالم الخارجي وابتعاد عن التطرف والتزمت وإطلاق الحريات إلى آخر مدى وتشجيع قيام مؤسسات المجتمع المدني وإشراكها في الحراك العام وإصدار دستور يلبي طموحات الشعب الليبي ونزع السلاح من الميليشيات وتأسيس الجيش الوطني على أسس سليمة عصرية من خلال تجديد دمائه واستبعاد الجنرالات الذين تجاوزهم الزمن الآن. هذه الأمور ليست مستحيلة وهي في متناول الشعب، والصراع ينبغي أن يحدث الآن من أجل بناء ليبيا وليس تدميرها.
الغريب أن المتصارعين الآن كانوا في سبات ويفاوضون الطاغية من أجل الفتات والافادة الشخصية، وعندما قضى لهم الشعب على الطاغية قفزوا من العربة مستغلين الفراغ السياسي الذي يعيشه الشعب فشكلوا المجالس المحلية واللجان وغيرها وانقضوا على مفاصل الدولة أو بالأحرى على أموال الشعب السائلة والمجمدة والتي تحت الأرض في وقت ينبغي فيه أن يخجلوا ويكونوا في الصفوف الخلفية مفسحين الطريق للدماء الجديدة التى واجهت الديكتاتور وقارعته.
حتى الآن في ليبيا لا يوجد اتحاد للكتاب ولا نقابة فاعلة للصحافيين أو نواد أدبية تؤثر في مسار الحياة. في الآونة الأخيرة تم اقتراح قانون يسيطر على الصحافة هو نفسه الذي كان مستخدما أيام الديكتاتور وتم اقتراح إنشاء وزارة للإعلام للسيطرة عليه. الحال الإعلامية تعج بالفوضى. الفضائيات الليبية والإذاعات، مملوكة من رجال أعمال لهم أطماعهم وأهدافهم السياسية، أو مملوكة من دولة قطر. الأحزاب السياسية تابعة هي الأخرى. الثورة فعلا سُرقت لكن اللص لم يبتعد بالغنيمة.
في إمكان الشعب أن يصلح المسار. هو القوة على الأرض وليس على الورق. الدول الأجنبية والعربية الداعمة لن تقف مع حزب يسقطه الشعب، وستغير سياستها بدعم الشعب الذي أطاح الأحزاب السارقة كما أطاح الديكتاتور القاتل. ستقف مع الشعب المنتصر أو مع الطرف الأقوى دائما لأن الضعيف لن يحقق لها مصالحها في ليبيا. ولا بأس بالتعاطي مع الطرف القوي فهو سيمنحنا القليل لكن هذا القليل مضمون وفي مأمن وأفضل من الكثير الهش الذي تذروه رياح الثورة في كل لحظة.
المثقفون في ليبيا احتضنوا ثورة الشباب ومنحوها الزخم المعنوي وأوصلوا صوتها إلى العالم وتضامنوا معها وحاربوا في صفوفها واستشهدوا مع ثوارها، لكن عندما تحررت ليبيا وبدأ وقت الغنائم عاش معظمهم اللحظة كما يلخصها هذا البيت: ينبئك من شهد الوقيعة أنني أغشى الوغى وأعفّ عند المغنم
لكن هل يترك المثقف شعبه فريسة لهؤلاء الطامعين؟ هل يترك المثقف شعبه الذي لا يعي معظمه اللعبة ويتم إسكاته وتحييده بمنحة؟ لا. المثقف سيعلم الشعب. سيفتح له مدرسة قلبه. سيفتح له ليبيا الحقيقية التي تقدم إليه الآن زائفة. سيحرضه كي لا يكون كسولا. كي يعمل ويتثقف ويعيش الحضارة والرقي. هناك مثقفون وثوار مُنحوا مقاعد نيابية وحقائب وزارية فنسوا زملاءهم المثقفين الذين كان يفترض أن يتعاونوا معهم لإصلاح ما يمكن إصلاحه. نقول لهؤلاء: لكم الكراسي والمراحيض ذات المناديل المعطرة ولنا الشعب. فهو في النهاية سيصافحنا في الشارع بينما سيصب لعناته على من جعل عجلة ليبيا تتوقف وتفقد هواءها تدريجيا.
|