خفقةُ جناح الفراشة التونسيّة الملتهبة التي تداعت لها بقيّة أحجار الدومينو العربيّة لم تستشر أحداً ولم تنتظر قيادة. ترجمت ما تراكم من ثقافة وإبداع ونضال إلى طاقة حيويّة وقامت في اللحظة التي رأتها مناسبة وصنعت أسطورتها المؤسِّسة وأطاحت طُغاتها ثمّ تركت للسياسيّين أن يواصلوا المهمّة. وهذه هي المشكلة.
لم يكن هؤلاء السياسيون قد تغيّروا بما فيه الكفاية كي يقودوا المرحلة بما يكفي من رؤى وأساليب مغايرة. فجأةً تحوّل قسم من المثقّفين إلى عرّافين وقرّاء كفّ. وفجأةً تحوّل قسم من السياسيّين إلى مهاجرين وأنصار وثوّار و"ثوّار أضداد" يتناهشون الغنيمة ويحاولون احتكارها واحتكار القوامة عليها بدايةً من التسمية، من دون أن يتواضعوا بما يكفي للاعتراف بأننا أمام فرصة غير مسبوقة مفتوحة على ممكنات قد تؤول إلى ثورات غير نمطية وقد تتمخّض عن ثورات مغدورة وقد تؤول إلى شيء مختلف كلّ الاختلاف.
لكأننا أمام طائرة مستقبلية وثب فجأةً إلى قمرة قيادتها طيّارون لا كفاءة لهم في أفضل الأحوال إلاّ لقيادة هليكوبتر! لا فرق في ذلك بين إسلاميّين وعلمانيّين إلاّ من باب الاستثناء الذي يحفظ القاعدة. لسنا إذاً على الأرجح أمام مشروع دنيويّ تتهدّده أخطار الاستبداد التيوقراطيّ، فحسب، بل نحن أمام صرخة حريّةٍ تحاصرها الذهنيّة الاستبداديّة المعشّشة بشكل أو بآخر داخل معظم الفاعلين، من دون تعميم ومع احترام الاستثناءات.
نحن نعايش تاريخاً يتشكّل وليس من شكٍّ في أنّ كلّ تشخيص حاسم لما يحدث هو نوع من استطلاع الغيب. إلاّ أنّ ما تحقّق حتى الآن ليس بالهيّن. لعلّ من أهمّ ما تحقّق كشف المستور عن حقيقة مجتمعاتنا وإطلاق الكثير من المكبوت المغيَّب وإسقاط العديد من الأقنعة المركّبة التي كادت تتحوّل إلى قناعات والتي صنعت لنا على امتداد عقود صورةً زائفة عن أنفسنا شبيهة بالبطاقة البريديّة حلّت محلّ الوجه.
احتكار التاريخ
من بين ما كشفت عنه هذه الثورات وجود رغبة لدى الجميع، تقريباً، في إعادة كتابة التاريخ، كلٌّ على هواه وكلٌّ على قياسه. بدايةً من التسمية بوصفها حكراً على الأب وعلامة على عموديّة النسب. لم يفهم معظم النخبة أنّ في التسمية ما هو عبء على المسمّى، وأنّ الحدث الذي قام بنفسه يريد تسمية نفسه بنفسه، في نوع من القطع مع الشجرة السلاليّة. هكذا لم يكن فرقٌ بين من استحضر الفتوحات الإسلاميّة ومن استحضر نموذج الثورة الفرنسيّة لسنة 1789. كلاهما انطلق من كرّاس شروط لتشخيص الحدث وتسميته. كلاهما اتكأ على الذاكرة وأبطل الخيال. في قصّة "خليفة الأقرع" صوّر لنا الكبير الراحل البشير خريّف تراجيديا فتى يسمح له الرجال بدخول بيوتهم لأنّه في نظرهم أقرع، أي لا خوف منه على نسائهم. ثمّ نبت له شعر فأُوصدت أمامه الأبواب فإذا هو يطلب استعادة قرَعه أي استعادة رمزيّة الخصاء. تلك هي الرغبة الكامنة في خطاب الكثيرين اليوم على اليمين وعلى اليسار. ينبت للشعوب "شَعْرٌ"، أي ثورة، فيحرص الساسة على اقتلاعه. يريدونها شعوباً قرعاء أي مخصيّة كي لا يُخشى جانبها!
احتكار الحاضر
من بين ما كشفت عنه هذه المرحلة، الاستقطاب الحاصل بين التيّار المدنيّ بألوانه الليبيراليّة والعلمانيّة واليساريّة من جهة، والتيّار الإسلامويّ الإخوانيّ السلفيّ الدعويّ أو الجهاديّ من الجهة الأخرى. ممّا يعني وجود جزء من مجتمعاتنا العربيّة يتعامل مع الحاضر من خارجه. وإنّ من مزايا ما حدث أن يعيد إلى وعي النخبة والجماعة ضرورة الاعتراف بوجود هذا الجزء من المجتمع، وضرورة البحث عن أسلوب وخطاب جديدين للدخول معه في جدل عميق بعيداً عن غوايتَي الاستخفاف والشيطنة.
إلاّ أنّ الأمر لا يقتصر على مجرّد صراع سياسيّ بين معسكرين. نحن أمام اختلال بنيويّ عميق في نسيج مجتمعاتنا. وهو اختلال استفحل نتيجة الأسئلة الاستيهاميّة التي وقع في فخّها جانب كبير من مثقّفينا عن وعيٍ حينًا ومن دون وعيٍ حينًا آخر، ونتيجة الحلول الإيهاميّة التي برع في حبك خيوطها النظام العربيّ ككلّ، بعلمانيّته السطحيّة الزائفة والمدجّجة بالخوذات العسكريّة أحياناً وبفاشيّته الوراثيّة المتنكّرة في زيّ مدنيّ أحياناً أخرى.
لعلّ أخطر ما كشفت عنه هبّةُ الشعوب العربيّة لإطاحة طغاتها: صعوبة التمييز في الجوهر بين المعسكرين. كلاهما، مع حفظ المقامات واحترام الاستثناءات، لا يرى مستقبله إلاّ في ماضيه. كلاهما يعمل انطلاقا من الذاكرة معطّلاً الخيال والاستنباط. كلاهما يملك الحقيقة ويريد أن يكون عرّابها الوحيد. كلاهما يريد السلطة ويبحث عن طرقٍ للاستيلاء عليها. كلاهما لا يتحمّل التعدّد ولا يؤمن بالتداول. كلاهما سلفيٌّ بشكل أو بآخر، وكلاهما يريد احتكار الحاضر انطلاقاً من سلفيّته الخاصّة.
احتكار المستقبل
من المفارقات التي كشفت عنها هذه المرحلة المزلزِلة، أنّ السلفيّة لم تعد حكراً على الإسلاميّين. وأنّ العلمانيّة لم تعد حكراً على العلمانيّين. من أجل الحصول على أصوات الناخبين، "تَعَلْمَنَ" الإسلاميّون وتداعوا إلى صناديق الاقتراع، هم الذين يقولون بالبيعة ويعتبرون الانتخابات بدعة والديموقراطيّة ضلالة. ومن أجل الحصول على أصوات الناخبين "تَأَسْلَمَ" العلمانيّون وشرعوا في ترقيع ثوبهم الحداثويّ بخيوطٍ دينيّة في نوع من الماركيتينغ السياسواتيّ المفضوح وغير المقنع. هكذا أنجبت المرحلة خطاباً ترقيعيّاً سلفيّاً عن ميمنته وميسرته في اصطدام مباشر بخطاب الثورة نفسها التي قامت تحديداً ضدّ الرتق والترقيع ومن أجل ولادة جديدة في ثوب جديد. هكذا وجد المثقّف نفسه في محور التجاذب بين معسكرين يختلفان في طريقة سعيهما إلى السلطة ويتّفقان عليه وعلى معاداته. لأنّ كلاًّ منهما يطالبه بالعودة إلى نقطة ما قبل المثقّف وما قبل الانتلجنسيا. نقطة التماهي بين الفقيه وبوق البروباغندا.
محنة الكرنفال
ليس من اسم مشترك لمحاولة احتكار الماضي والحاضر والمستقبل غير الاستبداد. أعود هنا إلى استحضار "بلاد الكرنفال"، الرواية التي نشرها آمادو سنة 1931 وكتبها عن "برازيله" وهي في دوار البحث عن ذات تتجاذبها الأنياب. مرّة أخرى أقول إنّ "بلاد الكرنفال" تشبه بلادنا. تبحث عن وجهها فلا تراه إلاّ منعكساً على مرايا مهشّمة: ما العمل؟ كيف الخلاص من البؤس والتخلّف؟ أيّ نهج هو الأصلح في الاقتصاد والحكم؟ أيّ أخلاق؟ أيّ حداثة؟ كيف يعيش الإنسان سعيداً وأين مفتاح السعادة: في السياسة؟ في الفلسفة؟ في الدين؟ في اعتبار غاية الحياة الموت؟ في الكفّ عن نشدان السعادة والتخلّص من الأسئلة والأحلام؟ في التخلّي عن المقاومة والاستسلام للأقوى والرضا بحياة البهائم التي لا تسأل ولا تشقى؟
في روايته الجميلة يؤكّد آمادو على لسان إحدى الشخصيّات أنّ من المستحيل اليوم كتابة قصّة جديدة عن الكرنفال. "ما يُكتب هو دائما القصّة نفسها. أب يمنح ابنته كامل الحريّة، وفي الكرنفال يتنكّر في زيٍّ جذّاب ويقابل فتاة متنكّرة فيصطحبها إلى غرفة وهناك يكتشف انّها ابنته. من الممكن طبعاً استبدال الفتاة بالزوجة أو الأخت أو الجدّة ولكنّها دائماً القصّة نفسها". في سياق الراهن العربيّ يمكن استبدال الفتاة بالثورة أو بالنخبة السياسيّة التي يظنّها المواطن حقّاً وحريّةً وعدالةً وكرامةً، فإذا هي ردّة ونكوص ومقايضة للخبز بالهويّة أو مساومة على الحريّة بالخبز.
هذه المقايضة وهذه المساومة علامتان على الاستبداد وذهنيّته السرطانيّة المترسّخة في معظم النخب السياسيّة الحاكمة والمتطلّعة إلى الحكم. وهذا الاستبداد وذهنيّته هما الخطر الحقيقيّ الذي يتهدّد مستقبل الشعوب العربيّة ويشدّها دائماً إلى الخلف أو إلى ديموقراطيّة كرنفاليّة بلا مضمون.
دور المثقّف؟
المثقّف عدوّ المعسكرين لأنّهما يشتركان في ذهنيّة السقيفة، سقيفة بني ساعدة، حيث الرمز مسجّى والورثاء يتقاسمون الغنيمة. هؤلاء مهاجرون وأولئك أنصار، ومنّا أمير ومنكم أمير ولا يريدون شاهداً على ذلك.
إلاّ أنّ الاكتفاء بالشهادة يجعل المثقّف شريكاً في ما يحصل. وليس عليه كي لا يتورّط في هذه الشراكة إلاّ أن ينصت إلى موسيقى العصر وهي تلتحم بسمفونيّة التاريخ مانحةً المثقّف دوراً جديداً وهويّة منفتحة على أفقٍ أبداً متحرّك. على المثقّف أن يعيد النظر في الكثير من مسلّماته، وفي مقدمها ما يتعلّق بتحديد انتمائه إلى شريحة النخبة التي لم تعد اليوم على ما كانت عليه في الأمس ولن تظلّ غداً على ما هي عليه اليوم.
على المثقّف أن يكون نفسَه. أي أن يُولد من جديد. وأن يمنح مضموناً جديداً لعبارة غيفارا: لنكن واقعيّين ولنطلب المستحيل. هكذا يمكن عبور محنة الكرنفال والتغلّب على صعوبة الخروج من ذهنيّة الاستبداد.
أستحضر هنا فرانز فانون في أكثر من حوار وفي أكثر من كتاب وهو يحذّر من حلم المقموع بأنّ يتحوّل إلى قامع! داعياً الشعوب المتحرّرة لتوّها من قبضة الاستعمار إلى الإسراع في تكوين نخب جديدة، مؤكّداً أنّ الاستعمار لا ينتهي بمجرّد الحصول على الاستقلال بل لا بدّ من تحرير الذهنيّة والوجدان والفرد ككيان إلى جانب تحرير الشعوب والجغرافيا، وأنّ الاستبداد لا يُطاح حقًّا ما لم تُطَحْ ذهنيّته داخل العقل والوجدان إلى جانب ما يمثّله من شخصيّات ومؤسّسات وجماعات.
النخب الجديدة التي يشير إليها فرانز فانون ويدعو إليها بإلحاح هي تلك التي تحمل ثقافة جديدة، وهي كناية عن الذهنيّة الجديدة التي لا بدّ للوعي السياسيّ من التعبير عنها كي يكون في خدمة المصلحة العامّة. إنّ من شأن غياب هذه النخب وهذه الذهنيّة في نظر فانون أن يؤدّي إلى اختطاف الاستقلال أو الثورات من طرف انتهازيّين ومحترفي صفقات، لن يمثّلوا في النهاية سوى صور كاريكاتوريّة عن المستعمر والطاغية، ولن يسمحوا إلاّ بأن تتمخّض حركات التحرّر أو الثورات عن الحزب الواحد والاستبداد.
|