هنا القاهرة؟ نعم. وهنا شخص بلغ به الضجر حد الشماتة. اليوم سأسمّي الأشياء بأسمائها. قد لا يعترف "التيار المدني" الذي أنتمي إليه للوهلة الأولى بأن هذا ما نحن في صدده، وقد لا تصوغه "الثورة" التي شاركتُ فيها بالألفاظ ذاتها. لكن، مذ استتب أمر "الإخوان المسلمين" في السلطة بمعاونة "ثوار" لا يزالون عمياناً عن كل ما سوى المناهضة المستبدة لـ"فلول" نظام يبقى أفضل بأي مقياس من الديكتاتورية الإسلاموية، باتت الحوارات/ الشجارات في فضاء الجدال السياسي داخل هذين المعسكرين تتمحور حول سؤالين: هل من "توافق وطني" محتمل في السياق الراهن؟ وهل قامت "ثورة يناير" من أجل معادل سنّي لولاية الفقيه؟ هنا "مصر الثورة"؛ ولأن الإجابة عن السؤالين هي بالضرورة لا، هذا ما أجدني أتحدث فيه مغالباً فجيعتي بعد عامين على بدء التحول.
تقول الشعارات الإسلامية: "ماذا رأيتم من الله حتى تكرهوا شريعته؟". لنفرض أننا لم نكن قد رأينا. أمس، يوم ٥ ديسمبر في مصر الجديدة، رأينا "شريعة الله" على إسفلت مصر الجديدة. رأينا "الإخوان المسلمين" والسلفيين والجهادين - تحت أعين الشرطة - يقتلون المتظاهرين المناهضين للرئيس "الشرعي" محمد مرسي والمحسوبين على الثورة بدم بارد. رأيناهم يأسرون ويسبّون ثم يحتجزون ويعذّبون سباياهم وأسراهم ضرباً وخنقاً وطعناً وصعقاً بالكهرباء بل وتعليقاً على أسوار قصر الاتحادية حيث كان المحتجون قد كتبوا تنويعات مختلفة على رسالة القطاع الأوسع من المصريين المدينيين إلى مرسي: "ارحل يا ابن الجزمة". وإذا أطلقوا سراحهم فليسلّموهم إلى الشرطة بتهمة البلطجة، حيث يصبح قرابة مئتي مجني عليه متهماً وماثلاً أمام نيابة باتت في خدمة الجماعة وتحت أمرها بعد الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس يوم ٢٢ تشرين الثاني وانطلقت في إثره الاحتجاجات، محصّناً قراراته ضد الطعن القضائي.
ليس هذا وحسب: إن قوّادي "الحرية والعدالة" (كما صرت، عن نفسي، أعرّف "قيادات الإخوان") بلغ بهم التبجح حد التلاعب الإعلامي والطائفي بهوية القتلى لكي ينسبوا الضحايا إلى أنفسهم. هكذا رأينا شعب الريف الكادح يزحف على المدافعين عن أبسط حقوقه باسم الله ليمارس عليهم أقسى أنواع القمع الرسمي بصفة غير رسمية، ورأينا دعاة "شرع الله" من المتنطعين على الثورة، بلا خجل، يسبغون على سياسي حنث اليمين وثبت عليه الكذب على نحو قاطع عصمة الأنبياء إن لم يكن القداسة الإلهية. هذا ما رأيناه أيها "الفصيل السياسي" الشريك.
¶¶¶
قبل شهور كان واضحاً أن ثنائية الثوّار والفلول السائدة إذاك تحت "حكم العسكر"، ليست سوى إيماءة شعاراتية طارئة سرعان ما سوف تنهار أمام صراع أكثر جذرية بين الإسلام السياسي وما سواه من توجهات، لأن الإسلام السياسي من الشمولية والعنف والرياء بحيث لا يستوي وجوده متجاوراً مع "فصائل" أخرى.
اليوم، بينما يُحشد الرعاع والإرهابيون من الأقاليم المظلمة في "تظاهرات تأييد" قاهرية لا يميّزها عن تظاهرات بلطجية مبارك سوى وساختها الريفية وتبجحها الوقح بإرادة السماء، يتهم قوّادو الحرية والعدالة ميدان التحرير المحتشد تلقائياً ضد الأخونة والتخليج، ضد تقويض القضاء والتمهيد للسيطرة على الإعلام، بأنه صار قبلة الفلول (علماً بأن الحكومة الإخوانية، ووزارة الداخلية بالذات، قائمة في الأساس على من كانوا يتقلدون مناصب في "العهد البائد"؛ علماً بأن "الإخوان" كانوا أول من تفاوض مع نظام مبارك وفي تاريخهم السابق على الثورة أكثر من واقعة تحالف مع الحزب الوطني المنحل). لقد بلغ جهل الإسلاميين وغباؤهم في مصر حد التهديد بالعصيان المدني "تأييداً لقرارات الرئيس"؛ ومتى كان التأييد من وظائف الحراك الاحتجاجي؟ ومتى...
عشية الاعتصام عند الاتحادية، وإثر هرب الرئيس من باب خلفي للقصر المحاصر، ثم التناقص التدريجي لأعداد المعتصمين هناك، أرسل "الإخوان" مسلحيهم المنظمين لفض اعتصام الاتحادية ومعاقبة "الثوار". وبعدما دفعوا لآخرين مقابل التحرش بالنساء وافتعال العنف سواء أفي التحرير دار الثورة أم في ماسبيرو مركز الحراك القبطي.
¶¶¶
ثم إننا رأينا "مؤيداً" على "يوتيوب" يسبّ المعتصمين أنفسهم بِغِلٍّ غير مفهوم بعد فض اعتصامهم، رأيناه يستدل بعلبة "جبنة نستو" وجدها في إحدى الخيام على أن "بتوع حمدين والبرادعي" اللذين يكرههما (لأسباب هي الأخرى غير مفهومة) ليسوا سوى خونة ممولين من الخارج (ومن ثم، أو إلى ثمة، "ضالين" ممن تذكرهم فاتحة القرآن).
إن ما يثبته مثل هذا المشهد أن الإسلامي المتحمس ليس في حاجة إلى حقائق/ معلومات مطابقة للواقع التجريبي، ولا إلى أي منطق نظري مهما كان بسيطاً، ولا حتى إلى الحد الأدنى من أدنى حد لإعمال القوى الذهنية العادية، لكي يقيم حجة تبرر له غضباً ينفث من خلاله كراهيته لذاته ويعبّر عنها من خلال التشبث بالغوغائية الشعبوية وسواها من أشكال التخلف من جهة، وعبر رفض كل ما يمكن أن يذكّره بدونيته من جهة أخرى (وهو العالم الواسع بما فيه احتمالات التقدم).
دعك إذاً من أن المتظاهر ضد مرسي هو في الضرورة، بالنسبة إلى ذلك الإسلامي، "بتاع" أحد سواه؛ إن الجبنة النستو التي يأكلها الجميع، إسلامياً أكان أم غير إسلامي، هي الدليل الدامغ على العمالة والخيانة ومناهضة "الشريعة" وكل ما من شأنه أن يهدد "الإسلام" في خطابه الساعي إلى يوتوبيا، هو يعلم قبل غيره أنها لا يمكن أن تكون.
¶¶¶
واليوم؟ اليوم يكبّر غلمان السلف داعين "أمير المؤمنين" الجديد أنْ "اضرب ونحن معك"، رافعين أعلام السعودية و"القاعدة"، محرّضين "خرفانهم" على قتل رموز المعارضة في القضاء والإعلام بوصفهم "فاسدين" و/أو "كفرة فجرة". اليوم يتطوع هؤلاء الغلمان والمتعاطفون معهم - بأوامر من القوادين - لأداء أدوار جلاّدي "أمن الدولة" في إعادة هزلية لمسلسل القمع البوليسي المفترض أنه مورس على الإسلاميين من قبل، ولكن أمام عدسات الهواتف في الشوارع، وفي أكشاك الشرطة العسكرية، وفي غرف داخل أسوار القصر.
بينما يحدث ذلك، يقبع اليسار المدجّن في محبسه "الوسطي" وقد أخرسته التطورات وإن استمر في ترديد شعارات الثورة على الفساد والتوافق الوطني كالمنوّم مغنطيسياً، ملتمساً أعذار الجهل والكبت وحداثة العهد بالسلطة، محذراً من "حرب أهلية" لا سبيل إلى تجاوز هذه المرحلة المنحطة - وقد مسك الكلب عظمة - إلا بشيء مثلها. حرب قد بدأها الإسلاميون بالفعل رافعين شعار "قتلاهم في النار وقتلانا في الجنة"، وبإيعاز من "القيادات" الميليشيوية الفاسدة والفاشلة التي لا تزال تتغنى بديموقراطية الصناديق واحترام رغبة الشعب.
يحدث هذا، وفي اليوم التالي يلقي الرئيس خطاباً رسمياً يغربل فيه نظرية المؤامرة المخابراتية المعتمدة منذ منتصف القرن فيقول إن بلطجية النظام السابق اعتدوا على متظاهرين سلميين؛ إن البلطجية في خدمة سياسيين حان وقت محاكمتهم، وإنهم قد اعترفوا بجرمهم أمام الشرطة. لا يتعرض ولو بكلمة للفرق بين المحتجين و"المؤيدين". لا يتعرض ولو بكلمة لجرائم الإسلاميين وتواطؤ الشرطة عليها. إن عدد البلطجية الذي يذكره مطابق لعدد المعتصمين الذين أوقفهم "الإخوان" وعذّبوهم ثم سلّموهم؛ ومع ذلك، رغم النفوذ الإخواني في النيابة، لا يستطيع أحد أن يثبت عليهم أي جرم حتى يطلق سراحهم بعد مماطلة في اليوم الثالث. ولا يعرف أحد عمن كان يتحدث الرئيس.
¶¶¶
"حماية الثورة": قل ما تشاء يا رفيق. أنا فعلاً نادم على مشاركتي في الحماقة الكبرى التي تسمّونها الثورة، ولم أشعر مثل اليوم بضآلتي ولا جداوي أنا وكل ما يمكن أن أمثّله. كل ما في الأمر أنني تصورت خطأ أنني أعيش في مجتمع يمكن أن يدافع عن مصالحه، أو يعني مجتمع له طليعة تعرف تلك المصالح أو ترى أبعد قليلاً من بشاعة القمع اللحظي وأخلاقية الشعار. قاطعت الانتخابات البرلمانية وقاطعت انتخابات الرئاسة، وحاولت على مدى سنتين أن أستفز المعنيين لأذكّرهم إلى أين نحن ذاهبون. الآن أحس أننا قد وصلنا، ولم أعد متأكداً من أن مصر ليست سوريا، ولا أشعر أن عندي أي شيء أقدمه. ليسقط الإسلام السياسي وليسقط التدين الذي أنتجه؛ لتسقط أكذوبة القومية العربية ومزحة التحرر الوطني؛ لتسقط ترهات النهضة ودعارات المقاومة؛ ليسقط الفساد والاستبداد. ولكن ليسقط كل من ساهم ولو بنَفَس شارد في ركوب شعوب وأوطان بأسرها على هذه السفن الورقية ومن ثم وصولنا إلى هنا. نحن يا رفيق لا نستحق الحياة. 22 نوفمبر 2012 إثر صدور الإعلان الدستوري
¶¶¶
مع ذلك، ورغم ذلك: لدى التوافقيين والوسطيين وقطاع كبير من "الثوار" كما لدى الإسلاميين أنفسهم، يظل الإسلام السياسي مضطَهَداً حتى حين يكون في السلطة؛ يظل قومياً حين يعمل لصالح إسرائيل، وتوافقياً حين يستبد بالقرار، وديموقراطياً حين يكرس الشمولية؛ يظل "فصيلاً" ضمن الفصائل حين يحتكر لا القرار السياسي فحسب وإنما الدستور ذاته، كما يظل الممثل "الشرعي" للشعب حين يُقصي ثلاثة أرباع ذلك الشعب نوعاً، إن لم يكن كماً، ويغامر بالدولة بعدما غامر بالمجتمع والثقافة الوطنية بكل معانيها المحتملة على مدى عقود.
هكذا يأتي ناشط نجم ممن بادروا إلى انتخاب مرسي، وهي الخطوة التي أدت مباشرة إلى ما نحن فيه؛ وبدلاً من الاعتذار عن قصر النظر والمساهمة في صعود الاستبداد الظلامي وتسهيل مهمة التخلف الممنهج أو إعلان موقف واضح من الديكتاتورية الدينية التي تمثلها الرئاسة، إذا به يشير إلى جذر الخلاف في الجمعية التأسيسية الموالية ورئيسها فيغرّد قائلاً: "أنا مش نازل أسقط مرسي، أنا نازل أسقط الغرياني".
لماذا إذاً لا نقول إن الإسلام السياسي يحقق أهداف الثورة بالفعل ونحن نراه يستعملها وإيانا للانقلاب على ما بقي من المؤسساتية واستبدالها بشمولية عشائرية أبشع ألف مرة من "نظام مبارك" الذي ثرنا عليه؟ طالما لا تسعى "الثورة" لحساب نفسها باستبعاد أمثال ذلك الناشط من الأصوات المعبّرة عن رواسب الوعي النضالي الأخرق ودعارات البطولية الاستعراضية بكل ما فيها من جهل وغباء ولامسؤولية إجرامية، لعل ما يفعله مرسي كمسؤول ملف الرئاسة في جماعة "الإخوان المسلمين" هو "ثورة مصر" بالفعل. ولعلنا جميعاً بمن فينا ذلك الناشط فلول.
¶¶¶
أمس في مصر الجديدة تأكد ما كنا نعرفه، أو انهار ما كانوا يكذبون به علينا – ولا يزالون - من أن هناك مساحة تقاطع حقيقية بين الإسلام السياسي والديموقراطية أو الوطنية أو الحرية أو العدالة الاجتماعية أو أي قيمة أخرى نادت بها "ثورة يناير"؛ أو أن ما يتهددنا في هذا المنعطف التاريخي هو الشمولية العسكرية أو استمرارها. ولا أهمية الآن لتوجيه السؤال إلى الرفاق ممن صوّتوا لمرسي: ماذا كنتم تتوقعون؟
إنها أدوار ورثها أصحابها - وإن طوّروها - من قوميي الانقلابات ودعاة مناهضة الاستعمار واليسار الذي بادر من ثم إلى موالاة "الشيوخ". هنا القاهرة وهذا ما وصلنا إليه: ملتحون يقمعون الاحتجاج في حماية "الرئيس الثوري"، قاصمين ظهر أيّ منظومة مدنية محتملة، متاجرين ليس فقط بالعقيدة وإنما أيضاً بدماء مواطنيهم؛ مدن تعلن استقلالها عن حكم "الإخوان"؛ و"ثوار" لا يزالون يدافعون عن انتخاب مرسي بوصفه "النار" التي فضّلوها على "عار" شفيق حرصاً على "المصلحة الوطنية"! فهل كان شفيق ليجرؤ على إصدار إعلان دستوري مثل الذي أصدره مرسي ثم إرسال ميليشياته لقمع الاحتجاج عليه؟ أتمنى عليك أن تجيبني، أخي في الثورة.
ولو كان في البلاد مؤسسة عسكرية "وطنية" متماسكة، هل كانت لتسمح بتسليم الدولة لجماعة سرية إرهابية تمارس القمع المجتمعي والعنف السياسي ونشر التخلف بانتظام منذ عشرينات القرن الفائت؟ ولو كان للإسلام السياسي أي صلة بالديموقراطية، هل كان ليخرج في "تظاهرات تأييد"؟ ثم ماذا نحن الآن فاعلون؟ لا أهمية للإجابة عن هذه الأسئلة، أقول. الأهمية للاعتراف بأن الإسلامويين المتزمتين هم رعاع الأمة، ومنظّريهم نخّاسوها، وقادتهم أثرياء حربها من زعماء عصابات الملتحين. ولنسمِّ الأشياء بأسمائها معترفين بفشلنا الذريع مرة وإلى الأبد. ولنقل مثلما قال الرئيس مرسي في نهاية خطابه: والله من وراء القصد.
|