| | التاريخ: كانون الأول ٢٧, ٢٠١٢ | المصدر: جريدة الحياة | | الابتزاز البعثي والتوبة الغربية - سامر فرنجية |
سبق لوزارة الخارجية والمغتربين السورية أن حذرت من احتمال قيام بعض «المجموعات الإرهابية» باستخدام السلاح الكيماوي في الصراع الحالي، على ما أفاد التلفزيون السوري في شريط عاجل قبل أيّام. الخبر لمن يتابع الوضع في سورية غريب. فهو لا يُقرأ إلاّ كتهديدٍ من قبل النظام نفسه. غير أنّ هذا التهديد مستغرب أيضاً. فهو ليس موجهاً ضد الثورة السورية التي تعاني منذ سنتين من قتل وتعذيب تفوق مفاعيلهما مفاعيل السلاح الكيماوي. كما أنه ليس تمهيداً لاستعمال ذلك السلاح كون النظام لا يحتاج إلى إعلان نواياه الإجرامية. فالسؤال إذاً: لماذا هذا التهديد من قبل وزارة الخارجية والمغتربين السورية ولمن هو موجه؟ في كتابه الشهير «حرب الخليج لم تقع»، لخّص الفيلسوف الفرنسي جان بودريار استراتيجية صدام حسين بعملية ابتزاز معمّمة. فمن حربه مع إيران الإسلامية باسم العلمنة إلى رفعه لواء الإسلام في وجه الولايات المتحدة وصولاً إلى عرضه لصور الرهائن الغربيين على شاشات التلفزيون وهو يلاطفهم، أتقن الرئيس العراقي عملية الابتزاز، محولاً نفسه إلى حلقة أساسية في سياسات المنطقة من خلال استغلال خريطة مخاوف اللاعبين الأساسيين. لم تنفع هذه الاستراتيجية على المدى الطويل لكنها ضمنت ديمومة النظام البعثي في العراق لفترة طويلة. النظير السوري للنظام العراقي برع في استغلال الأسلوب نفسه مع الغرب، حيث ورث دور المبتزّ الأول في المنطقة. فعلى مدى سنوات حكمه، تمكن من فبركة المخاوف وتقديم نفسه بوصفه الضمانة الوحيدة لضبطها، مؤمناً لنفسه دوراً في المنطقة لا تبرره قوة النظام الذاتية. والأمثلة على هذا الابتزاز كثيرة، من دوره في الحرب اللبنانية كضامن لاستقرار لا يزعزعه إلاّ النظام نفسه، وصولاً إلى التلاعب مع شبكات المقاتلين الإسلاميين في العراق واستثمارها دولياً. وأمام الثورة الشعبية ضد حكمه، تسارعت لعبة الابتزاز ليصبح النظام حامي الأقليات من الأكثرية والعلمانية من الإسلام السياسي وإسرائيل من الثورة وفلسطين من الغرب والاستقرار من الفوضى. وربمّا كانت ذروة هذا الابتزاز في تلويح الأسد باستعمال السلاح الكيماوي في صراعه الداخلي. فبعد استنفاد كل مخاوف ضحايا الابتزاز المحتملين، يحاول الأسد ابتزاز العالم بشعبه، وكأنه يعترف بأن سلامة هذا الشعب مسؤولية الغرب وليس النظام. وفي لحظة الابتزاز المطلق، لم يبق لهذا النظام إلاّ الانتحار الجسدي لكي يلفت نظر الحبيب القديم. وفي هذا التهديد صراحة غير مسبوقة من قبل هذا النظام، صراحةٌ يمارسها مَن فهم أن لا دور له بعد اليوم. فإذا قرر العالم وقف اللعبة المعتادة، أي لعبة الابتزاز، لم يبق للنظام إلاّ الانتحار من خلال الانتقام من الشعب وتدمير سورية نهائياً. التهديد بالسلاح الكيماوي ليس موجهاً إذاً ضد الثورة السورية، التي تحمّلت براميل متفجرة وصواريخ سكود وقصفاً منهجياً وتعذيباً بالجملة، بل إلى الغرب، إلى الشريك في التعرّض لعملية الابتزاز. غير أن كل عملية ابتزاز تعني مباشرة طرفين. فإذا لعب النظام على مدى سنوات تلك الورقة بنجاح، فإن هذا كان عائداً لوجود من يرغب في أن يُبتز. فالنظام السوري مثّل للغرب، سياسيين ومراقبين وأكاديميين، شكلاً من أشكال التوبة عن خطيئة الغرب الأصلية. هكذا شكّل للبعض الموقع الذي يمكن أن تُنقَد منه سياسات الغرب الخارجية من دون الوقوع في جنون القاعدة، ولآخرين قلعة للعلمنة في وجه التطرف الإسلامي والولايات المتحدة في آن. كما استطاع النظام أن يجسد طموحات من يريد أن يقارع النيو-ليبرالية ولو خطابياً، ورغبات من يريد أن يستذكر مجد القومية العربية، بالإضافة إلى تقديم نفسه كممثل للأصالة في وجه الغرب وللحداثة في وجه الإسلام السياسي. بهذا المعنى، استثمر النظام البعثي كل الخطابات الضدية في الغرب، ليصبح الترجمة السياسية لمناهج الدراسات الراديكالية والمحطة المفضّلة لصحافيين ومراقبين يبحثون عن إثارة وانتقام من أصلهم. بلغة أدق، شكّل النظام السوري «الآخر» المنتظر للغرب، المزيج الممانع بين الاختلاف والتجانس، بين الإثارة والطمأنينة، وتحوّل مع الوقت إلى مكوّن أساسي لعلاج الغرب من عقدة ذنبه، علاج يعيد لأولئك المراقبين بعض تفوقهم المعنوي الذي يقدمه الانفتاح على العدو. هذا ما وجده جون كيري خلال عشائه مع «الوردة في الصحراء»، أو روبرت فيسك خلال زيارته لداريا برفقة قوات النظام. وهذا ما حاولت جيوش الأكاديميين البحث عنه في دراساتهم عن سورية. فلئن غدت الأنظمة المصرية والتونسية والليبية أهدافاً للنقد الأكاديمي، حافظ النظام السوري على هامش من التقبل، بوصفه نظاماً طيباً وصالحاً، وإن كان فاشلاً. وبدا هذا الانسياق وراء القوة التطهيرية للنظام جليّاً في صعوبة التخلي عنه على رغم فظائعه. فإذا وضعنا جانباً الاعتبارات السياسية، تضمّن التخلي عن النظام البعثي فقدان إمكانية الخلاص للباحثين عن توبة. ولم يكن الغضب من المعارضة السورية ناتجاً فقط من ضعفها وقلة تنظيمها، بل عن فشلها في لعب هذا الدور العلاجي. فهي ليست مكونة من المادة الخيالية للنظام ذاتها: هي علمانية وسلفية، سلمية وعنفية، تقطع مع النظام وتعيد إنتاج بعض جوانبه، ثم أن ابتزازها ليس مدخلاً للتوبة. فليس هناك، بالتالي، من طمأنينة تقدمها المعارضة السورية. فإذا سقط الاستشراق ضحية عمل الجالية العربية في الولايات المتحدة، فسيسقط «الاستشراق المضاد» ضحية الثورة السورية، وذلك مهما حاولت وزارة الخارجية والمغتربين السورية استعمال سلاح الابتزاز الكيماوي.
| |
|