ما زال "الشقّ المدنيّ" من الربيع العربي لم يستوعب "الشقّ الإسلاميّ" فيه، والعكس بالعكس. شقّان؟ شقاق؟ جناحان؟ ثورة وثورة مضادة؟ ربيعٌ وربيعٌ مضاد؟ الحيرة كثيرة، والأحداث والمشاهد ما زالت تتوالى بسرعة تفوق قدرة أي تحليل... الإسلاميّون بمعنى من المعاني لديهم "اسم". "الإخوان المسلمون" اسمهم الرئيسي، منه وعنه تنشأ التفرّعات والتمييزات والتخصيصات.
لا شكّ في أن الإسلاميين لم يكونوا المبادرين إلى إشعال الانتفاضات بوجه الأنظمة المومياقراطية التي تهاوت في عدد من الجمهوريات العربية، أو هي على الطريق. فإثبات ذلك بسيط: كانوا بوزن جماهيريّ ظلّ يتنامى في العقود الثلاثة الأخيرة، لكنهم لم يحاولوا تغيير الحاكم بالانتفاضة الشعبية عليه في الميادين.
في المقابل، كان لتعبئتهم الجماهيرية دور في توسع حركة إسقاط حسني مبارك لتشمل جميع أنحاء مصر، بدل أن تحصر في المركز كما في الأيام الأولى. لم يكونوا المبادرين إلى الربيع، لكنهم لم يتخلفوا عنه. تردّدوا بعض الشيء ثم ولجوا إلى صميمه. والإسلاميّون، على أنواعهم، بهم امتلأت سجون الأنظمة وأقبية تعذيبها في العقود الماضية، بالتوازي مع اندثار ظاهرة المعارضين للأنظمة لارتباطات عقائدية علمانية، ومن دون إنكار ما تعرّض له ناشطون حقوقيّون، مع أن دائرتهم تبقى محصورة.
لكن الإسلاميين طوال كل هذه الأعوام، وهم يندّدون بـ"الطاغوت" و"الاستبداد"، كانوا يستنزفون مجهودهم الفكريّ في موازنة ومفاصلة بلا طائل بين "الشورى" و"الديموقراطية"، ويتحايلون على كونية "حقوق الإنسان" مع أن ناشطيهم في سجون الأنظمة "الكافرة" كانوا الأحوج إلى هذه الحقوق. وسادت ظاهرة غريبة، وهي أن الإسلاميين وهم يتعرّضون لقمع النظام، كانوا يناضلون كي يقمع هذا النظام الأحرار من الناس، ويقوّض الحريّات العامّة والخاصّة، ويعيد النظر على نحو سلبي أوسع بما للمرأة من حقوق، مع أن حقوقها المهضومة هي الأكثر، وبما للأقليات الدينية من حقوق، مع أنها تعاني التهميش وانعدام المساواة، ولا تحتاج إلى المزيد من الاضطهاد.
في المقابل، مَن هم غير الإسلاميين؟ الشعب؟ الثورة؟ الربيع العربي؟ الليبراليون؟ المدنيون؟ العلمانيون؟ ثمة التباس. أبعد من التسمية. أبعد من البرنامج. أبعد من الهوية.
نحن أمام ثنائية في كل البلدان المصابة بـ"الربيع العربي". القسم الأوّل من هذه الثنائية معلوم: "الإسلاميّون"، "الأخوان" (ومن هم على يسارهم أو يمينهم من "السلفيين" في تسمية أصبحت سائبة تطلق بلا تدقيق)؟
لكن من هو القسم الثاني، وماذا يريد؟ يحبّ القسم الثاني أن يقنع نفسه بأنه الربيع، وبأنه يواجه ثورتين مضادتين, النظام القديم من ناحية، والإسلاميّين من ناحية ثانية. لكن هذا تبسيط. فهو في مواجهة النظام القديم يحتاج إلى الإسلاميين. من دونهم ما كان سقوط حسني مبارك بهذا الشكل.
ثم هو يحتاج إلى القاعدة الشعبية للنظام القديم لعرقلة توسع الموجة الإسلامية. بقي أن يعي غير الإسلاميين أمر هذه القاعدة الشعبية، بدلاً من أن يتركوها للإسلاميين الذين أسرعوا على طريقتهم لتأمين "توبتها" تحت عباءتهم.
مَن هم غير الإسلاميين في تونس أو في مصر أو في سوريا؟ ماذا يريدون؟ ليس هذا بسؤال نظريّ فقط. إنه أيضاً سؤال يسعى "غير الإسلاميين" للجواب عنه يوماً بيوم، وإن يكن بالتخبّط الايديولوجي بعض الشيء. تغلب على الكثير منهم الأيديولوجيا "الشعبوية". هم "الشعب"، و"الأخوان" يريدون "سرقة الثورة" منهم. أو أن ثمة "أكثرية صامتة" وهم المتحدثون باسمها من دون أن تولّيهم هذه الأكثرية، حتى إذا حدثت الانتفاضة الشعبية وخرجت الجماهير تهدر في الميادين قال "المدنيون" من غير الإسلاميين "هذه نحن".
لا بدّ من كبح هذه المكابرة "العلمانوية" بعض الشيء. الإسلاميّون جزء أساسيّ من الربيع العربي. نجاح الربيع يتمثّل أيضاً بإصلاح ثنائية إسلامي وغير إسلامي، التي يمكنها أن تصير ثنائية حزبية استقطابية دينامية، تتداول السلطة. لكن هذا لن يحدث من تلقائه. بل دونه كفاح مرير.
طبعاً، الإسلاميّون ما زالوا بعيدين عن تقبّل مثل هذا المسار. صاروا يتقبلون فكرة الدستور، لكن من دون القانون الدستوري ومنهجيته، ومساحة مقارناته، ومن دون سلطة تأسيسية تصوغ الدستور كـ"عقد" لا كـ"عهد".
الإسلاميون ما زالوا يتعاملون مع الدستور على أنه "العهد" الذي يقطعونه أمام الناس، وليس على أنه "العقد" الذي يصاغ بين مكونات الأمة. ويزيد الطين بلة أن هذا "العهد الذي ليس بعقد" تجري إحالته على الناس، كما في مصر، بالتهريب، وبعد سلسلة من الوعود التي لم يجر احترامها.
لكن، من هم أخصام الإسلاميين؟ في الماضي، لعبت الفكرة القومية الدور الأساسي في كبح سطوة الحركات الإحيائية والصحوية الإسلامية. التجربة القومية الجمهورية الكمالية في تركيا، الحركة الوطنية الاستقلالية المصرية، الفكرة القومية العربية فوق الوطنية، وتحديداً التجربة الناصرية.
أي فكرة هي القادرة اليوم على منازعة الإسلاميين أو مشاركتهم، وبشكل عام دفعهم نحو إصلاح لبنية تفكيرهم وسلوكهم باتجاه تبنيهم الكامل والنهائي للإطار الدستوري (العقد)، الوطني، السلمي، التداولي؟
فكرة "الشعب"؟ ليس بالشعبوية يقارع الإسلاميون، الذين لا يقلون شعبوية. كما أن الشعبوية لا تطمئن الطبقة الوسطى، ولا القوى النافذة في الاقتصاد وعالم المال. فكرة الفرد؟ لوحدها لا تكفي. لا تكفي أبداً. يخطئ الليبرالي العربي إن هو اعتقد أنه بقيم الفرد والفردانية يمكنه أن يجابه الموجة الإسلامية. الانتماء إلى الكونية؟ أيضاً لا يكفي. ليس هناك مواطنية مجرّدة تنتمي إلى العالم بالمطلق. ليس هناك مواطنية من دون وطنية.
طبعاً، "القومية العربية"، وخصوصاً مع الكابوسين البعثيين لعبت دوراً في ضرب أي فكرة عن "الأمة الوطنية"، في مقابل تزكية "الأمة الدينية". مع ذلك، هذه "الأمة الوطنية" هي وحدها المؤهّلة لتأطير غير الإسلاميين في حراك سياسي إيجابي له اسم ورسم. شرط إعادة تأهيل هذه الفكرة التي أساءت إليها "القومية العربية" كثيراً.
اللافت هنا أنّ هذا الوعي بدأ في تونس كما في مصر. فإذا كان عتاة الإسلاميين يتهمون العلمانيين التوانسة بـ"التفرنج"، فإن العلمانيين يصفون أفكار الإسلاميين بأنها "دخيلة" على تونس. قد يبالغون بعض الشيء، لكنهم يحسنون التقاط العنصر الوطني. بالوطنية التونسية معطوفة على الليبرالية والشعبوية، وليس بالليبرالية والشعبوية فقط، يمكن مجابهة الإسلاميين. في مصر، يمكن القول إن انتفاضة القضاة هي التي صوّبت الأمر وأعادته على هذا النحو.
المعارضة السياسية واجهت الإسلاميين إما بالشعبوية، وإما بالليبرالية. لم يكن كافياً. القضاة أعطوا بُعداً وطنياً للصراع. أهمية هذا البُعد أنّه، بخلاف الشعبوية والليبرالية، إنّما يحرّك قاعدة استنهاضية أساسية بوجه الإسلاميين. "المؤسسات"؟ بل هو البعد الوطني، "شخصية مصر"، أو في تونس، "شخصية تونس". لكن ماذا عن سوريا؟ ماذا عن "شخصية سوريا"؟
|