التاريخ: كانون الأول ٨, ٢٠١٢
المصدر: جريدة الحياة
بعض خلفيات الانتهازية السياسية لدى «الإخوان» - صلاح سالم
تمثل البراغماتية نزعة فلسفية سياسية وأخلاقية معاً، تحكم على قيمة الفعل أو السلوك انطلاقاً من النتائج العملية التي تترتب عليه، لا من تصورات أولية «مبدئية» سابقة عليه، على النحو الذي تجسده الأخلاق الدينية، مثلاً، عندما تحدد مبدئياً وعلى نحو مسبق قواعد للحرام والحلال، أو حتى معايير للخطأ والصواب.
 
هكذا تعكس البراغماتية منهجاً مركباً، ينطلق من رؤية للعالم ويتأسس على إدراك لشتى جوانب الواقع، والتقدير الجيد لممكناته، ليأتي سلوك الفاعل البراغماتي محققاً مصلحة مستقبلية، لا تطبيقاً لتصور أيــديولــوجي مســبق، أو فكرة مثالية متعالية.
 
وفي المقابل لا تعدو الانتهازية أن تكون نقيصة سياسية وأخلاقية، تتبدى عرضياً في مواقف بذاتها اغتناماً لفرص سانحة أو انقلاباً على مواقف قديمة، تصم أصحابها، إذ تجعلهم غير محل لثقة، أو أهل لمسؤولية، ولذا فهي الأقرب إلى توصيف المسلك السياسي «الإخواني» في مصر حتى الآن وليس البراغماتية التي ينسبها البعض إليهم، لأن تلك الأخيرة تقتضي منهم الحرص على صياغة توافق وطني يرعى التجربة الوليدة التى يتصدرونها، أملاً في إنجاحها، ونجاحهم معها، ولكنهم يتصرفون دوماً ضد هذه الأهداف، يحفزهم نهم للسلطة، يتجاوز حدود قدرتهم على الهضم، فالمعدة السياسية للإخوان قوية انتخابياً فقط، على صعيد الحشد وكسب الأصوات، ولكنها قاصرة سياسياً على صعيد الحكم والتجربة. لقد حصلوا على الغالبية البرلمانية قبل أن يستعد الآخرون، وعلى الموقع الرئاسي في سياق دراماتيكي وعبر مرشح «الجماعة» الذي صار معروفاً للمصريين بعد الانتخابات لا قبلها، وتلك مفارق تعكس تفوقاً انتخابياً لا كفاءة سياسية والفارق هنا كبير.
 
لقد نظروا إلى المقعد الرئاسي باعتباره فرصة ثمينة يجب انتهازها، من دون إدراك لما يتوجب عمله لتكون الفرصة حقيقية لا خطراً مؤكداً يعجل بإفشالهم سياسياً، وربما انتخابياً بعد ذلك. والحال أن ممارسات الأشهر الماضية تشي بأن المقعد كان عبئاً عليهم، لأنهم حاولوا من خلاله أن يقوموا بكل ما كان واجباً أن يتجنبوه، وأن يتجنبوا كل ما كان مفترضاً أن يقوموا به.
 
لقد حاولت الجماعة منذ اليوم الأول تنفيذ برنامج لأخونة الدولة، ذلك أنها ظلت دوماً على هامش نظم الحكم المتعاقبة، في موقع المحظورة غالباً، وعندما تمكنت قامت بإسقاط غضبها لا على تلك النظم وحدها بل على «الدولة المصرية» نفسها، والمؤسسات التي طالما ارتكزت عليها، قبل أن تنطلق، باستخدام كل الأدوات المتاحة، في محاولة اختراقها بغرض أسلمتها ثقافياً، وأخونتها سياسياً، على نحو يغـير من طبيعتها الوطنية جوهرياً.
 
في هذا السياق تبدت النزعة إلى أخونة الصحافة القومية، قوية وسريعة إلى درجة مثيرة تشي بروح ثأرية إزاء مؤسسات طالما عكست روح المدنية المصرية، فلا يمكن لأحد، مثلاً، أن يتذكر «الوقائع المصرية» من دون محمد علي باشا ومشروع الدولة الحديثة التي شرع في بنائها، أو يسمع اسم «الأهرام» رغم ملكيتها الأولى لآل تقلا من دون استعادة لصخب العصر الناصري الذي لعبت فيه «الأهرام» دور المنبر، فيما لعب رئيس تحريرها دور الملهم، أو يسمع اسم «الجمهورية» (دار التحرير) إلا ويتذكر ثورة تموز (يوليو)، خصوصاً الرئيس السادات الذي رأس تحريرها، قبل أن يرأس مصر ويقوم باللعب مع الإسلاميين، قبل أن يقتله الجهاديون، وهكذا.
 
كما تبدت واضحة محاولتهم للسيطرة على القضاء، والعدوان على أحكامه منذ اللحظة الأولى التى تم فيها تحدي حكم الدستورية بحل مجلس الشعب، وصولاً إلى قرار إقالة النائب العام، ومحاولة التضييق عليه والتظاهر حول مقره بعد فشـــل قرار عزله، رغم أن هذا القضاء نفسه هو من أشرف على العمليات الانتخابية المتوالية التي أتت بهم إلى الحكم الآن، والتــــي كانت قد سمحت لهم بالوجود كمعارضة رغم بطش النظام السابق. وفي مقابل نـــزوعهم إلى أخونة الدولة، تبدى ترددهم وعزوفـــــهم عن ممارسة السلطة من خلال الحكومة وحركة المحافظين، التي لم تأت إخوانية صــــــريحة حتى لا تحسب عليهم نتائجها حال فشلها في كسب الشعبية. لقد أتوا برئيس وزراء محايداً ظاهراً، موالٍ ضمناً.
 
وبتشكيلة وزارية ربعها فقط من «الإخوان» رسمياً، ولكن البقية إما منتمون لهم فكرياً، وإما مستعدون لتقديم قرابين هذا الإنتماء فعليا، ولعل هذا يفسر خلو حكومة الدكتور قنديل من القامات الكبرى والأسماء اللامعة التي كان يتم ترشيحها. لم ترد الجماعة أن تترك الوزارة لحكومة ائتلافية قوية كان الرئيس قد وعد بها قبل جولة الإعادة خشية أن تنجح في كسب الشعبية ولفت الأنظار وإفراز قيادات جاذبة من خارجهم، ولكنها أيضاً لم ترد أن تحكم عبر وزارة إخوانية صريحة تتحمل مسؤولية فشل محتمل في فترة انتقالية صعبة يليها انتخابات تحرص هي على الفوز بها والعودة لتشكيل وزارة تحكم لسنوات خمس مقبلة، فكانت النتيجة هي خضوعنا لحكومة عاجزة مهلهلة، لا قيمة للوقت ولا وجود للحركة في ظلها، وصارت أيامنا تمر بطيئة من دون انجاز لشيء، فلا عمل رغم كل الصخب المحيط بنا، وكأننا نعيش فيلماً صامتاً عبر صورة بطيئة، أو كأننا مثل مريض قام للتو بإجراء عملية جراحية ولم يخرج بعد من تأثير حقنة التخدير، فصارت الأماكن والناس تتلوى أمام عينيه، منحنية ومتعددة ومتداخلة، تستعصى على الوضوح والتدقيق.
 
باختصار أرادت الجماعة أن تدير مصر لا أن تحكمها. وبدلاً من أن تقوم بأخونة السلطة وهذا حقها الطبيعي، سعت حثيثاً إلى أخونة الدولة، وهو سعي عبثي؛ لأنه أولاً ليس حقاً طبيعياً لها وإلا توجب علينا أن نعيد بناء الدولة من جديد مع كل انتخابات برلمانية، وكأننا سيزيف، البطل الذي حكمت عليه الآلهة في الأسطورة اليونانية أن يعيد مرة تلو أخرى تجربته الفاشلة في حمل الصخرة إلى أعلى الجبل، أو كأننا نعود إلى الأرض من جديد بعد طوفان نوح عليه السلام. ولأنه ثانياً أمر عصي على التحقق وإلا ما كنا أمام كل تلك الصراعات العبثية التي استنزفت طاقاتنا جميعاً بصخبها وعشوائيتها. لقد أرادت الجماعة أن تهندس لمستقبل طويل تريد تأميمه، فيما نأت بنفسها عن تحمل تبعات واقع أليم نعيشه، وفي الحالين معاً فإن سلوكها هو قمة الانتهازية.
 
 
* كاتب مصري