من هنا من اسطنبول، سوريا ليست هي نفسها تلك التي نرصدها من بيروت.
المأساة السورية هنا أشد ثقلاً. ربما يكون اختلاطها ببرد المدينة هو ما يدفع الى هذا الشعور.
فللبرد القارس قدرة على النفاذ الى الحكايات. في المقهى عندما يروي لك سوري قصص بلدته أو مدينته فيما البخار ينبعث من فمه، ويده ترتعش أثناء حمله سيكارة في الجزء الخارجي من المقهى، يتسلل البرد الى متن الحكاية.
في مخيمات اللاجئين السوريين في هاتاي التركية ظواهر من نوع البلوغ المبكر للفتيات، وعنف يمارسه أطفال النازحين، وبرد قارس، وعنف منزلي، واضطرابات عائلية ناجمة عن الازدحام في السكن. ثمة فارق بين ان تسمع حكايات عن هذه الظواهر في اسطنبول وبين ان تسمعها في بيروت. هنا للروايات وظيفة أخرى، هي حملك على الاستماع فقط، وليس على المبادرة. فالمخيمات بعيدة عن المدينة نحو ساعتين في الطائرة، وأنت فرد في هذه المدينة الكبيرة. فرد واحد لا أكثر. في بيروت لن تُصاب بهذا العجز. يمكنك الالتفاف عليه بمبادرة فاشلة. اتصال بأصدقاء بهدف جمع أغراض للاجئين. حثُّ طبيب صديق على زيارة اللاجئين في طرابلس. عقد العزم على التوجه الى عرسال للكتابة عن أوضاع اللاجئين... هنا في اسطنبول لا يمكنك فعل ذلك. هنا أنت لوحدك في مواجهة المأساة، وأنت اذ تستمع، لا يساورك وهمٌ يتعدى الاستماع. لفافة التبغ في اليد المرتجفة لرجل من ادلب، تضاعف شعورك بالعجز.
اللاجئون في هذه الدولة الكبيرة أرقام وحسابات، ولم تتم جدولتهم بحسب حكاياتهم. فبالنسبة لحزب العدالة والتنمية الحاكم والذي انحاز الى الثورة السورية، القضية بدأت قبل 1400 سنة، ولم تبدأ عندما قُتل طفل معرة النعمان العام الفائت. انها حكاية طفل واحد من المعرة، لا بل مئتي طفل من الحولة، وهي حكاية أربعين ألف سوري قضوا على يد النظام. لكن الحق لا يقيم في هذه الأرقام المحدودة، إنما في استيلاء نظام البعث على دولة الأمويين. الإغاثة هنا هي جزء صغير جداً من هذه المعادلة الكبرى. الانحياز الى الضحية، هي نقطة من بحر الانحياز الى قضية أكبر.
دائماً ينتابك في اسطنبول شعور بانحسار أهمية الضحية الراهنة لصالح ضحية قيمية بلا لحم ولا دم. تُرسل المساعدات المحدودة الى كتل وجماعات، ويقول مرسلوها إنهم فعلوا ما فعلوه خوفاً من الله لا خوفاً على الأطفال. والروايات التي ينقلها السوريون من بلداتهم ومدنهم توضع في أكياس، ويعمل على فرز عناصرها أخصائيون في علم الإحصاء. الأكاديمية البريطانية الشابة التي وصلت الى المدينة باحثة عن أشكال ونماذج الحداد الذي يمارسه السوريون، لاحظت ان سلطةً ما تمنع السوريين من ممارسة حدادهم. وان هذه السلطة تريد للمأساة ان تكون واحدة، ومتجمعة في قيمة دينية. إله وثني يصهر أجساد القتلى ويحشرها في صنمه.
السلطة هي نفسها التي ترى ان الأطفال الذين يعصف بهم البرد في مخيم هاتاي للاجئين السوريين، ليسوا فلاناً وفلاناً وفلاناً. إنهم مئة طفل، وواجب اغاثتهم مستمد من كونهم أحفاد الأمويين، لا من كونهم بردون.
كم هي باردة اسطنبول، وكم هم باردون الإخوان المسلمون، وكم هو بارد حزب العدالة والتنمية.
|