تسرّع الليبراليّون والربيعيّون العرب في الاستبشار بمشهد الغضب الجماهيريّ والقضائي والسياسيّ المصريّ العارم بوجه الاعلان "الدستوريّ" الاستئثاريّ وعملية "سلق الدستور" من قبل جماعة الاخوان المسلمين. تسرّعوا، بمعنى انّه لم يهمّهم من كل هذا المشهد الا انقاذ سرديتهم المتفائلة بالربيع العربيّ في مساره العام، و"المتوقّعة" لـ"آلام مخاض" حيوية، طبيعية، ولو قاسية، انما لا تلبث ان تنقضي.
في الحقيقة، ان كان من درس أوّل لمجرى الأمور في مصر، فهو يتعلّق أساساً بضرورة الاقلاع عن هذه السردية النمطية. فالمسائل أعقد بكثير من مجرّد مطبّات هوائية تمرّ بها طائرة الربيع العربيّ، ونقاومها بـ"ربط الأحزمة". فما يجري في مصر لم يعد فقط "شارع" في مقابل "شارع" كل واحد منهما يرشق الآخر بتهمة "سرقة الثورة" والقيام بـ"ثورة مضادة". ما يجري يرسّخ منطق القسمة الى "مجتمعين". أحدهما لن يستطيع حتى الاخوان المسلمون ضبط مساره الأيديولوجيّ التشدّدي، على طريق المناداة بـ"الشريعة الآن"، ثم "الحاكمية الآن".
وثانيهما مهما بلغ ضيقه من حالة الاختناق النفسي التي يعيشها جراء وصول الاخوان الى الحكم، وجنوحهم الى الاستئثار، الا انه مجتمع ينافي "التيار الديني" انما من دون طرح نفسه كـ"تيار علماني" كما هي الحال مثلاً في تركيا، وبشكل أقل في تونس. وبدلاً من ان يخفف هذا حدة التصادم في مصر بين "مجتمعين"، انما يفتح لهذا التصادم أبعاداً خطيرة لمصلحة الاكثر تطرفاً عند كل مواجهة، هذا ان لم تجر المسارعة الى لملمة الوضع، بانضاج تسوية تهدوية تلغي الاعلان "الدستوري" بشكل أو بآخر، وتحضّر لانتخاب سلطة تمثيلية تشريعية ذات طابع تأسيسيّ، يمكنها ان تتولى متابعة كتابة الدستور تمهيداً لعرضه على الاقتراع العام.
فتحت وطأة هذه الأزمة، ربما فضّل بعض المتحمّسين لـ"حكم الاخوان" نسيان ان الدساتير لا يمكن "سلقها" وادعاء الشرعية في الوقت نفسه، وان تنظيم تظاهرات حاشدة مؤيدة في وجه تلك الرافضة هو سبب اضافي لبطلان الأهلية التأسيسية، ولا ينفع ان تكون هذه الشرعية مرة تستحضر على انها "ثورية" ومرة على انها "دستورية"، فأصل البلاء هو هذا الخلط بين الشرعيتين الدستورية والثورية في الأنظمة التسلطية الانقلابية العربية التي نشأت بعد انكفاء المستعمر.
وفي المقابل، لا ينفع ان يكون اخصام الاسلاميين يندّدون بتسييس "الغيب" من قبل الاخوان، فيما هم يعتمدون على "السحر"، وعلى شعار "الشعب يريد.." الذي أصبح كما التعويذة، او "شبيك بيك". في النهاية، هناك استحقاقان انتخابيان، احدهما تشريعي وثانيهما رئاسي، فاز الاسلاميون بهما، الاول بنسبة عالية لكن المجلس ما لبث ان حلّ، والثاني بنسبة بسيطة، وبشقّ النفس، وبـ"مبرّر جمهوريّ" يتصل بمنع رموز النظام السابق من العودة، ومن رأس الهرم، مجدداً.
وهذا اللفيف الربيعيّ الذي ضاق ذرعاً من استئثار الاخوان وتعريضهم بأسس كتابة الدساتير، هو لفيف لم يتجاوز ركام الايديولوجيا الشعبوية، بعناصرها القومية واليسارية او غير ذلك. فهذه الايديولوجيا لعبت دوراً سيئاً في أسر الثورة المصرية بالديماغوجيا.
ينصح مكيافيللي أميره ما معناه أن لا يندفع كثيراً لانهاء عدوّه عندما يكون مرتاباً من صديقه. لكن ما قامت به قوى الثورة من غير الاسلاميين كان العكس تماماً. طالبت اكثر من اللازم بملاحقة الفلول، بدلاً من ان ترث المساحة الاجتماعية والاهلية التي كانت للحزب الوطني، وهو لم يكن حزباً فاشياً او بعثياً لكي يقوم كل هذا السعار ضدّ كل من انتسب اليه. ظلّ التركيز على "الفلول" فترة اطول من اللازم (هوس تكريس خطوط تماس "العيب الاجتماعي" الجديد)، فلم تر "الثورة - فئة غير الاسلاميين" جنوح العسكر للاستئثار، وعندما عايشت ذلك صارت مهجوسة باسقاط سلطة العسكر بأي شكل، وعدم تقبّل اي دور لهم في المرحلة الانتقالية، وهو امر ستتضح خطورته. العسكر يسعون لاطالة المرحلة الانتقالية اكثر من اللازم، لكن حصر هذه المرحلة، وتأطير دورهم فيها، وكسبهم الى مصلحة التحول الديموقراطي، اي في مواجهة الاسلاميين، وفي مصلحة اعادة تحريك عجلة الاقتصاد، هو امر اكثر من ضروري. من فرط ما ردّد الشبان في التحرير "يسقط يسقط حكم العسكر" لم يروا تباشير "حكم المرشد". كان الواحد منهم يحاججك بأن الاخوان لن ينالوا شيئاً في الانتخابات التشريعية. وعشية الرئاسيات صار واحدهم يحاججك بأن تراجع الاخوان وصل الى حد ابعادهم عن اي سباق على الرئاسة.
اليوم ايضاً، ثمة تقصير في النظر الى المشهد السياسي بتعقيداته وتقاطعاته، والكتل الاجتماعية التي يتحرّك تبعاً لها. الماركسي استقال من زمن بعيد من هذه المهمة التحليلية واكتفى بنظرية المؤامرة. القوميّ ما زال يراهن على نوستالجيا جمال عبد الناصر. الليبرالي المصريّ يحلم بدستور العشرينيات. لكن الواقع في مكان آخر. وللواقع علينا حق.
هذا الواقع يقول ان ثنائية اسلاميين وغير اسلاميين هي معطى اساسي مزمن يعمّم في كل المجتمعات ذات الاكثرية المسلمة والمتحولة في الاتجاه الدستوري والديموقراطي. هي ثنائية لا يمكن ان تعالج بتوهم ان "الاسلام السياسي" موضة، كما كانت الشيوعية في بلاد المسلمين موضة. شتان.
الواقع يقول لنا ايضاً ان تحويل هذه الثنائية الى ثنائية مؤطرة دستورياً ووطنياً ليس بالأمر السهل، وهو يتطلّب من جانب غير الاسلاميين اجادة الجمع بين تملك قاعدة شعبية متينة وبين هجران الايديولوجيات الشعبوية، في اتجاه بلورة تيارات دستورية وليبرالية وتقدمية، متصالحة تماماً مع فكرة المساواة في المواطنية، دون ان تطرح المواطنية من موقع كوني مجرّد، بل في اطار تجديد الفكرة الوطنية، فكرة الدولة الأمة بمعناها الاكثر تماثلاً مع سيادة حكم القانون ومع المعنى الاكثر رحابة للتعددية واللامركزية.
والحال ان كثيراً من المعارضين للاخوان في مصر قد برّروا التباس بعض مواقفهم في هذا الاطار بأنهم لا يريدون ان يقووا حجج الاخوان المتسترة بالدين، والمتجاوزة للاوطان. هذا بعض من المماحكة التي اوصلتنا الى المشكلة الراهنة.
وطبعاً، في المقلب الآخر، يحاول الاخوان ان يروّجوا لمنطق اما ان تقبلوا ما نقدّمه نحن، واما ان يأتي السلفيون من بعدنا. هذا منطق لا يختلف كثيراً عن منطق حسني مبارك: "اذا رحلت سوف يأتي الاخوان من بعدي". والمشكلة ان من ينطق بمنطق كهذا لا يكذّب. حسني مبارك جعل من وصول الاخوان الى الحكم امراً واقعاً. محمد مرسي يخاطر بتسليمها الى .. أيمن الظواهري.
|