التاريخ: كانون الأول ٢, ٢٠١٢
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
قضاة أم قضاء؟ من خلال خطاب الاستقلال لرئيس الجمهورية - هيام جورج ملاط

تضمن خطاب رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان لهذه السنة كلمات بارزة عن دور القضاء في مجتمعنا اللبناني لجهة ضرورة صونه وحمايته على ان يقوم هذا القضاء "بالحكم دوماً وفقاً لمقتضيات الإنصاف والعدل ولا يعود له بالتأكيد البحث عن الملاءمة السياسية في أحكامه، لان هذه الملاءمة ليست من شأنه، وهو الذي يحكم باسم الشعب اللبناني".

 

هذا الكلام بغاية الأهمية لأن القضاء ليس فقط جزءاً بارزاً من النظام المؤسسي الوطني لأي بلد بل لأن هذه المؤسسة بالذات تختصر في طياتها المقومات الإيجابية والسلبية للمجتمع، وهي تطرح في الوقت نفسه تساؤلات لا بدّ من مقاربتها بطريقة شريفة وملتزمة على أساس كلام رئيس الجمهورية بالذات. لماذا؟


لأن شموخ مؤسسة القضاء يتلازم مع وجود قضاة على مرتبة عالية من العلم والخلقية وسمو التصرف - علماً ان معالجة قضية القضاء بالذات لها محاذيرها لامتياز القضاة بحساسية خاصة لجهة تقويم واقع مؤسستهم حيث ان ما يمكن ان يقال أو يكتب ليس دائماً محبذاً أو مقبولاً.


لذلك، لا بدّ لي قبل الكلام عن القضاء والقضاة من الإشارة إلى وقائع تبدو للبعض بغاية الخصوصية وربما خارج الموضوع ولكنها تشكل في نظري مدخلاً للكلام عن القضاء بمنطق تدعيم مداميكه من خلال ثبات تقاليد شديدة القوة لتعزيز مفاهيمه، ومع اعتبار أن القضاء ليس بالنصوص بقدر ما هو بالنفوس. وهذا ما ثبت على مرّ التاريخ حيث من الممكن أن تعود بنا الذاكرة إلى مواقف أشخاص التزموا القضاء ومارسوه بعدالة وبشجاعة دون ان يكون في تلك الأيام أي عبرة لمفهوم استقلالية القضاء أو غيره من المفاهيم.


ينبع الكلام عن القضاء بالنسبة لي من أسباب شخصية ووجدانية وانسانية:


1 - ان القضاء كان التزاماً عائلياً من جراء ممارسة والدي مهمة القضاء طوال فترة من الزمن (بين 1953 و1990) متقلباً بين مناصب عديدة وملتزماً عدم الانتقال إلى المراكز الإدارية التي عرضت عليه كالمديرية العامة للأمن العام عام 1964 والمحافظة عام 1965.


2 - وأكثر من ذلك أيضاً إن التزامي بسمو دور القضاء يعود إلى أسباب عائلية أخرى نظراً إلى تبوؤ القاضي والشاعر تامر ملاّط عم والدي جورج وشقيق جدي شبلي مراكز قضائية مرموقة في عهد المتصرفية حيث تنقل بين رئاسة محاكم جزين والشوف وزحلة وكسروان جبيل وهو الذي تحّمل في ما تحّمل فساد واصا باشا ومظفر باشا وزمرتهم اللبنانية.


يتبين مما سبق ان رحلتي مع القضاء هي رحلة متجذرة في الضمير وفي الحياة. لذلك، يحق لي عند الشهادة استلهام عبر الماضي ليس للانتقاد – وهذا أمر بسيط وسهل وليس من شيم من تعود جذوره إلى نشأة المؤسسة القضائية في لبنان – بل لرفع أداء القضاء بالذات إلى مستوى التاريخ والديموقراطية والمحافظة على الحرية الفردية التي هي بنهاية الأمر في صلب ممارسة الحريات التي تبقى في عالم النظريات الفلسفية إذا ما اقترنت بالدفاع عن حرية كل مواطن. لماذا؟


لأن نظرتنا الى القضاء ومع إقرارنا بما تشكله التقنيات الحديثة الممكن اعتمادها أو إدخالها على مستوى أصول المحاكمات وتعديل بعض النصوص من نقلة نوعية، إنما هي لا تتعدى التفاصيل في حين يقتضي برأينا الانتقال إلى جوهر تكوين هذه السلطة وفلسفتها لطالما طمحت المجتمعات على اختلاف أنواعها لمنحها صلاحية معالجة قضايا المواطن من اجل حلها بالعدل والإنصاف. ان القضاء في لبنان هو ممارسة متجذرة في مجتمع لطالما عانى من الصعوبات والمداخلات والحساسيات التي شكلت، في بعض الأحيان أو ربما في معظمها، طعناً بحيويته وقدرته على الارتقاء إلى سمو المهمات الملقاة على عاتقه والمطلوبة من المجتمع. كما اننا نعتبر ان الكلام عن القضاء ليس بموضوع صحافي أو أدبي او قانوني عادي بل انه يشكل موضوعاً وجدانياً بعيداً عن الانتقاد السريع والساذج لعنصر فاعل في المجتمعات الديموقراطية. لمـاذا؟


لأن القضاء كما هو معروف هو الذي يلفظ الأحكام ولا يسدي الخدمات. فالقضاء يجب ان يستحق نفسه لأن قضية المواطن التي تطرح أمام القاضي هي دائما قضية مبدئية لكل مواطن. فالقضاء مساحة صدقية كل دولة تتطلع أن تكون دولة الحق والقانون حيث الحكم الظالم والمجحف يحمل المواطن، من خلال قضيته الخاصة، على التشكيك في سلامة جميع المؤسسات العامة، وبالقيم التي يقتضي ان يقوم عليها المجتمع السياسي.


فالقضاء ليس وظيفة في الدولة، لأن من يلتزم وظيفة يلتزم بتأمين خدمات، وهذا هو دور المؤسسات الإدارية في الدولة الهادفة لتسديد تلك المهمات. فالقضاء هو شهادة ورسالة وقد قيل هذا الكلام من قبل وسيقال كل يوم، لأن هاتين الكلمتين تحملان في طياتهما مسؤوليات ملزمة أدبيا ومعنوياً. فمن ينتهج القضاء يحاسب في يوم من الأيام بقدر ما منح من قدرة وعلم ونفوذ لأن القاضي يطالب بالكثير لأنه اؤتمن على الكبير.


لذلك، ان القاضي هو قلب السلطة القضائية التي نشأت من خلال توافق حضاري بين مختلف فرقاء المجتمع للاحتكام إلى بعض الأفراد منه للفصل في ما بينهم وحل مشاكلهم ولفظ الأحكام وفقاً لنظام قانوني معين. وبقدر ما يرتفع القضاء إلى مستوى العدل والخلقية والعلم والإنصاف، بقدر ما يطمئن المجتمع إلى الضوابط الموضوعة لكي تصبح الدولة دولة الحق والقانون أي الدولة التي تُخضع نفسها للقانون.


فدولة الحق والقانون كما هو معروف ليست تلك الدولة التي يوجد فيها كمّ من النصوص والتشريعات والقرارات، بل تلك التي ترضخ لهذا النظام القانوني وتجعله وزراً لها كما لسائر المؤسسات والمواطنين. وان هذا الإقرار يحمل القاضي على ممارسة صلاحياته بالدقة اللازمة للإنصاف عند لفظ الحكم وإنزال العقوبات. ان حجارة قصور العدل في لبنان والعالم هي الشاهد الحي لتاريخ المجتمع السياسي والاجتماعي لأنها تختصر همّ المواطن عند الدفاع عن حقوقه وعجرفة الظالم وحجج الكاذب والمجرم وقلق الإنسان الشريف على حقه.


فعندما يدخل المواطن إلى قصر العدل، يختصر في خطواته المتيقنة كامل نظامه الديموقراطي ودستوره وقوانينه لأن قضيته الخاصة هي في نظره قضية الوطن، وعلى القاضي عندئذ التيقظ لعدم حجب عن هذا المواطن حقوقه، لأن عدم نشر الحق هو المسمار الأول في صدقية النظام السياسي الذي يتوق إليه كل شخص ملتزم بالديمقراطية بالذات والتي تخضع معاييرها القانونية للاختبار الايجابي او السلبي في صرح القضاء.


وإذا كان القاضي يتميز قبل كل شيء بشخصيته العادلة فهو يتميز أيضاً بعلمه ومناقبيته. فالعلم لا ينحصر لديه في تحصيله الشهادات بل برفع هذا التحصيل إلى مستوى الثقافة الحقيقية من خلال تضلعه بالحضارة الاجتماعية الحديثة من جهة وبمجال الاجتهاد، من جهة أخرى، وهو يستقر في التجديد عند تعليل الأحكام، وهو يلخص في الاستلهام المستمر والاستكشاف الدائم، وليس بالنقل والتبعية.


فالقضاء ليس في تفاصيل إصلاحات من الممكن ان تتم أو لا تتم. فلقد عرف تاريخ الانسانية وما زال أشخاصاً مارسوا القضاء ورفعوا من شأنه من خلال نصوص محدودة او غير موجودة، ومع الاتكال على شخصيتهم بالرغم من ظروف قاسية لأن الوقوف على قوس المحكمة للقاضي هو الوقوف أمام محاسبة الضمير والوجدان. فاذا كان من الممكن القيام بإصلاحات لجهة  تفعيل النصوص القانونية بالطريقة المناسبة وتعديل المجرى القانوني لقطاعات عديدة من خلال مراجعة أحكام قانونية تجاوزها الواقع والزمن، او تعديلها، يبقى السؤال المطروح والذي يقتضي الإجابة عليه ضنّاً بمستقبل نظامنا الديموقراطي ودفاعاً عن الحرية الفردية، كيف يمكن ان يرتفع القضاء في لبنان الى مستوى السلطة، أي ان يرفع كل قاضي ممارسته لمهماته لكي يجعل من القضاء مؤسسة وليس ممارسة فردية مهما كانت مميزة. فالعبرة في الأشخاص لكي يرتقي القضاء إلى مستواه الحقيقي ليرتاح المجتمع والمواطن ولكي يعرف الأخير، ومعه جميع المؤسسات العالمية والإقليمية والمحلية التي تبقى انظارها محدقة بالوضع القضائي اللبناني انه مهما كانت القضية فعندما يعبر المواطن عتبة قصور العدل في لبنان فهو يتعاطى مع قضاء وليس مع قضاة فحسب. لماذا؟


لأن الآثار السلبية الناجمة عن الشك بالقضاء جسيمة جداً حيث انه يمنع على الدولة في نهاية المطاف مطالبة المواطنين بالتقيد بالقوانين وتنفيذها إذا تلكأ القضاء في تنفيذ مهماته بصورة منزهة ومستقلة. لذلك ان الاستقلالية الواجب منحها للقضاء ليست من نوع الترتيبات الإدارية العادية بل إنها التزام بضمان حقوق المواطن وبإقتناع الأخير بأن القضاة - جميع القضاة - ان على مستوى القضاء الجالس أو النيابات العامة ملتزمون بمعايير دقيقة وحكيمة وليس بخدمات مطلوبة أو هموم أو وعود الترفيع أحياناً.


 ان الشك في القضاء يؤدي إلى الشك في المجتمع الذي يخضع عندئذ لتجاذبات وانعكاسات تؤدي إلى خطر حمل المواطن  على اليأس بمؤسساته والشك بالوطن. فمن الضروري إبقاء هذا الأمر أمام نصب أعيننا ونبذ التصرف الذي يجعل من القاضي أسير القضاء بل يرتفع به الى مستوى صوت المجتمع عند مواجهة المواطن المشاكل والمخاطر.

محام واستاذ جامعي