أكتب هذا وقد تنازعتني رغبتان بين الكتابة عن وطن يسكن فيَ ووطن أسكن فيه. سألت نفسي هل أكتب عن غزة التي احترقت ويئن أهلها تحت سعير القصف أم أكتب عن عمان وهي تصنع 'تاريخاً' في هذه الاثناء سينبلج عن فجرٍعلى شعب يئن تحت سعير الفقر والظلم الاجتماعي لينام أرباب الفساد ممتلئي البطون. شعرت بأني إن كتبت عن غزة فقد إنحزت لموطن آبائي فلسطين وجحدت بوطني الذي يؤويني الأردن. تنازعتني المشاعر كأردني من أصل فلسطيني أين يهوى فؤادي وأين أجد قضيتي التي ألتصق بها وتلتصق بي وماهو المهم والأهم بالنسبة لي وفي هذه الظروف.
إلا أن طيفاً من يقين أرساني إلى قناعة بأنه لاتناقض بين الهويين، ولماذا يكون هناك تناقض من البدء، ولماذا يكون حب الأول إجحافاً بالثاني وحب الثاني تنكراً للأول. فأنا ممتن حقاً لأن قلبي يتسع لوطنين ومثلي آلاف مؤلفة ممتنون بأن يتسع قلبهم لوطنين وحُلمين. فلا أجمل من أن تحمل بدل الفِكر فكرين منسجمين يغذي أحدهما الآخر وبدلاً من الثقافة ثقافتين تثري بهما حياتك وحياة الآخرين.
تيقنت فعلاً بأن حبي للأردن وحملي لهمومه وإنخراطي في حلها هو هم رئيسي ومباشر. فليس أضعف من فلسطين أردنها ضعيف وليس أقوى من أردن فلسطينه حرة قوية. تمازج عز أن يُعرف نظيره بين وطنين وشعب واحد يسكن حول ضفتين. فوحدة المصير لايمكن فصلها بجرة قلم من هنا أو هناك. وإرث مئات السنين تعجز كل المؤامرات عن حصره. لذلك لابد من توضيح أمور إختلطت حتى تاهت في تعريفاتها حقائق وتم إستغلالها لتعزيز التفرقة بين الأردنيين.
ما سيأتي لاحقاً قد يستثير البعض ويتهمني بما يحلو من إتهامات. إلا أنني أبدي رأياً وأصف حالاً يجب أن يسمى باسمه الحقيقي. و من هنا تأتي أهمية اعتقادي بأن يشارك الأردني من أصل فلسطيني بالحراك الشعبي أو الحراك الوطني على الساحة الأردنية. فبرغم محاولات بعض الأطراف البروقراطية والتيارات السياسية من التخويف من مشاركة الفلسطيني في هذا الحراك بالقول أن التحول الديمقراطي يمنح الأردن للفلسطينيين على طبق من ذهب وأنه اي التحول الديمقراطي عندها سيكون تعزيزاً لمشروع الوطن البديل والتوطين واغفالاً لحق العودة. أو أن البديل للفساد الذي نهب مقدرات الوطن هو الفوضى، فإن ذلك لايعدو كونه فزاعات تستبدل في الأوقات التي تراها هذه الأطراف مناسبة.
فبداية أود التذكير بأن ما يقرب من تسعين بالمائة من الأردنيين الفلسطينين هم أردنيون كما يظهر من إسمهم (أردني فلسطيني) وعليه فإن الأردن وطنهم كما أن فلسطين وطنهم ولا تناقض بين الحالين. كذلك فإن تسعين بالمائة من هذا المكون يحمل الجنسية الاردنية وأستقر في الاردن وتوالد فيها وعاش ومات فيها، فعن أي توطين نتحدث وقد أصبحنا مواطنين في هذا البلد منذ اكثر من أربعة أجيال سواء من نزح منا أم لجأ، أليست كلها هناك أرض فلسطين؟ وإن لم يكن حق العودة قد تحقق سياسياً بعد فإنه قد تحول إلى حالة وجدانية، على عكس التوطين والذي تحقق كوضع سياسي منذ أن حكمت الأردن الضفة الغربية فأصبح الجميع أردنيين على قدم المساواة بحكم قرار التجنيس الصادر آنذاك والذي شمل لاجئي 1948 أيضاً. أما اتفاقية وادي عربة فقد نصت صراحة على توطين الفلسطينيين في الأردن وهذا ما ترفضه كافة الفعاليات الوطنية. فلو افترضنا جدلاً بأن هناك حلا لقضية اللاجئين ينص على عودة اللاجئين الى مدنهم وقراهم التي هجروا منها سنة 1948 شريطة تنازلهم عن الجنسية الأردنية لإثبات فلسطينيتهم فكم واحد سيعود؟ وكم واحد سيتنازل عن جنسيته الأردنية لضمان حق العودة؟ سؤال صعب الإجابة أتركه لكم.
كذلك فإن السكنى في مخيمات اللاجئين لم تعد حالة سياسية مرتبطة بالعودة ورفض التوطين كما يصرح الكثير من السياسيين الفلسطينيين في الأردن. فالمتتبع لأغلب تصريحات قيادات المخيمات الشعبية والسياسية يربط المخيم بحق العودة ورفض التوطين. وكأنه يتحدث عن سكان مخيمات لايحملون الجنسية الأردنية والأرقام الوطنية. وهذا فيه مجافاة للحقيقة. من الممكن أن ينطبق ذلك على جزء كبير من المقيمين في مخيم جرش من الفلسطينيين الذين لا يحملون الجنسية الأردنية مثلاً. أما بقية المخيمات الإثني عشر فجل سكانها من الاردنيين أصحاب الأصول الفلسطينية. فالمخيم إكتسب قيمة في الوجدان الفلسطيني وتحول إلى رمز اللجوء ومأساة النكبة. لكن في حقيقة الامر فهو مركز سكني وتجاري سكانه أردنيون من أصول فلسطينية كأي قرية أردنية سكانها أردنيون. ولاننسى بأن العديد من المخيمات قد توسع الى خارج حدود المخيم واصبح أهله فعلياً وإداريا من خارج سكان المخيم. ناهيك عن أن العديد من الناس قد هجروا المخيم للسكن في قلب العاصمة أو أماكن أخرى بحسب ما تمليه عليهم متطلباتهم الحياتية. لذلك فمن الغريب جداً أن يتحول الرمز إلى غاية وأن يتحول الرمز إلى عنوان نتوه من دونه عن أنفسنا!
إذا ما نظرنا الى أن الأردني من أصل فلسطيني على أنه مواطن أردني واذا ما تفعلّت القوانين والتشريعات التي تعامل المواطنين على قدم المساواة حينها يصبح الجميع فعلاً مواطنين أردنيين لهم ما لهم من حقوق وعليهم ماعليهم من واجبات وحينها تسود قيمة القانون والعدالة الإجتماعية. والاهم من ذلك أنه إذا ماخرجنا من عقدة المخيم والتوطين وحق العودة وعقدة القرية والعشيرة إلى فضاء أرحب منفتح على الأردن متقبل لكافة الأطياف المنتمية للأردن مع إحترام الخلفيات الثقافية حينها لايخشى أي شخص من أن يتولى فلان أو غيره منصب رئيس وزراء أو مدير للأمن العام أو حتى موظف بلدية في قرية نائية. لأن الإنتماء حينها يكون للوطن الأكبر ويكون تحمل المسؤولية بالكفاءة وليس بالمحسوبية.
لذلك فقد تم إستخدام الحديث عن حق العودة من قبل من يتحدثون بإسم المكون الفلسطيني في الاردن ومن قبل المحللين السياسيين الأردنيين-الفلسطينيين ومن قبل الحكومة لخلق جدار عازل بين الأردني من أصل فلسطيني ووطنه الأردن وبينه وبين المشاركة في الحياة السياسية. وممازاد في ذلك هو الممارسة القمعية الممنهجة التي إتبعتها الحكومات الأردنية المتوالية منذ أيلول الأسود 1971 وحتى فترة قريبة جداً كانت بداية نهايتها إنطلاق الحراك الشعبي والذي يفتح الباب لهذا المكون بالانخراط في العمل السياسي خارج إطار الجهاز البروقراطي. وتجدر الاشارة هنا الى أهمية رصد بدء إنخراط الأردنيين من أصل فلسطيني في الحراك الشعبي بغية تسجيل وتحليل العوامل السياسية والاجتماعية التي أدت اليه وإن كانت مشاركة محدودة وخجولة. وعليه فقد كانت الحكومات السابقة وأجهزتها الامنية حكراً بإستهداف الفلسطينيين وتطارد أي عمل سياسي أو نقابي لهذا المكون وتعمل على إقصائه. وهنا تقال كلمة حق بأن الاردنيين من أصل فلسطيني فضلوا الانخراط نتيجة ذلك بشكل كبير في الأحزاب السياسية الفلسطينية المتواجدة على الأرض الأردنية وأعتزلوا العمل السياسي الأردني مما يسجل ضدهم.
ومن نافلة القول بإن إحجام هذا المكون عن العمل السياسي والنقابي أو إنخراط الجماهير في تعبيرات سلمية يعود إلى هذا الإرث الثأري بين الأردني من أصل فلسطيني والأجهزة الأمنية. حيث إمتازت القبضة الأمنية بالثقل عند التعامل مع التظاهرات في داخل المخيمات حتى وصفت كما يقال بالمثل الشعبي بأن الفلسطيني 'ليس له دية'. إلا أن من السخرية بمكان أن نرى هذه القبضة الأمنية الثقيلة وقد إمتدت خلال شهور الحراك الشعبي لتشمل الأردنيين جميعاً بصرف النظر عن منابتهم وأصولهم مما أوجد حالة من إشتراك المصير ووحدته بين الاردنيين فبذلك تكون الأجهزة الأمنية أول من طبق مبدأ المساواة بين الاردنيين!
ليس على الاردنيين من أصل فلسطيني إنتظار الحكومات القادمة كي تفتح الباب للجميع للإشتراك في العمل السياسي والأنشطة السياسية وتحقيق المساواة والعدالة فهذا لن يحدث لرغبة الدولة بإبقاء حالة التشرذم في المجتمع الأردني قائمة وإبقاء حالة الخوف من الآخر من أجل الإبقاء على الوضع القائم الذي يرتع فيه الفساد والظلم الإجتماعي. وعليه يجب على المكون الفلسطيني أخذ زمام المبادرة والتحرك في إتجاة المشاركة الفعلية في الحراك السلمي المكفول قانونياً وإن كان الخوف من التعامل مع الحراكات داخل المخيمات بقسوة فإنه من الممكن التوجه الى خارج المخيمات. وكذلك يجب إسقاط هذا الجدار العازل الذي بناه بعض السياسيين والنخب من أبناء المكون الفلسطيني بالتعاون مع الحكومات الأردنية والتيارات السياسية اليمينية الأردنية والذي جعل الأردني الفلسطيني في حالة تناقض حاد مع واجباته الوطنية تجاه وطنه الأردن من ناحية وحق العودة من ناحية أخرى. أخشى من يوم يأتي يُسأل فيه الأردني من أصل فلسطيني أين كان عندما إحتاجه الأردن، فبماذا سيجيب؟
' كاتب فلسطيني
|