| | التاريخ: تشرين الثاني ٣٠, ٢٠١٢ | المصدر: جريدة الحياة | | الأردن في فم العاصفة - موسى برهومة |
يعيش الأردن هذه الأيام على وقع ارتدادات الزلزال الذي أحدثته الاحتجاجات غير المسبوقة في عقب قرار الحكومة تحرير أسعار المشتقات النفطية. وقد دلت تلك الاحتجاجات الساخطة والعنيفة ضمن ما عُرف بـ «هبّة تشرين»، تيمّناً بـ «هبّة نيسان» 1989، على عمق الاحتقان وعدم الثقة بإجراءات الحُكم لحماية الطبقات الفقيرة، وحتى الوسطى من غائلة الفقر والجوع والمستقبل الغامض. وإن كان شعار «إسقاط النظام» قد دوّى في سائر محافظات المملكة، فإنه لم يكن الصدع الوحيد الذي أصاب النظام الذي لم يسبق أن واجه مثل هذه الأزمة منذ 42 سنة، أي منذ تفجر المواجهات المسلحة ما بين النظام والفصائل الفلسطينية المسلحة في أيلول (سبتمبر) 1970. في حينه، كان التهديد حقيقياً للنظام الملكي في الأردن، وكان عرش الملك الراحل الحسين، على كفّ عفريت. في «هبة تشرين» التي يحاول عقل الدولة أن يستخف بمخرجاتها، تصدعت رمزية الملك، وصار للمرة الأولى في مواجهة جموع المحتجين الذين ملأوا الشوارع والساحات، وخاضوا مواجهات مع قوى الأمن والدرك أسفرت عن سقوط قتيل، وجرح مئات (بينهم رجال أمن)، واعتقال مئات يواجه بعضهم تهم «إطالة اللسان» و «التحريض على تقويض نظام الحكم». ولا تزال الاحتجاجات، حتى هذه اللحظة متواصلة، وإن في شكل متفرّق. وفي المقابل، لا تزال آلة القمع والاعتقال والتعذيب تعمل بلا هوادة، من دون أن يبادر النظام الى وضع ما حدث في نصابه، ويدفع باتجاه تنفيس الاحتقانات بخطوات حقيقية، وإصلاحات جوهرية تكفّ عن خداع الناس، وتخديرهم، وتقنعهم بعدم الخروج مجدداً إلى الشارع. النظام الملكي، وقد تلقى ضربة كادت أن تطيح شرعيته، وأثخنت رمزيته بالجروح، مطالبٌ بالاقتداء بما كان فعله الملك الحسين، حينما قاد ثورة بيضاء جذرية نقلت الحياة السياسية خطوات مكوكية باتجاه الانفراج الديموقراطي، وصوغ عقد اجتماعي بين الدولة والناس. الملك الراحل كان جاداً وحاسماً ويتمتع ببصيرة تاريخية مكّنته من حماية الأردن من العواصف والأعاصير المدمرة التي تهبّ الآن بضراوة على المملكة. الاستحقاقات الشعبية والسياسية قبل «هبة تشرين» كانت تتمثل في انفراجات سياسية واسعة عنوانها المركزي الإجرائي قانون انتخاب توافقي يفضي إلى مشاركة شعبية واسعة في انتخابات «حرة ونزيهة» تنتج برلماناً لا يتحرك، كسابقيه بـ «الريموت كونترول»، ويشرع في إجراء تعديلات دستورية تحصّن الحياة السياسية ومفرداتها، وتعزز مبدأ التشاركية الإيجابية الفاعلة في الحكم. أما في أعقاب «هبة تشرين»، فقد أضيفت إلى المطالب السابقة، احتياجات عاجلة لإعادة النظر في التحالفات الإقليمية والدولية للمملكة التي خرج الحديث عن «التواطؤ» ضدها من حيز الهمس إلى فضاء العلن والبوح الصريح. فثمة «أدلة» على ضيق الولايات المتحدة من حكم الملك عبدالله الثاني، وحديث في أروقة البيت الأبيض عن البحث عن بديل، وهو ما عبّرت عنه «نيويورك تايمز» قبل أيام بلسان مراسلها في عمان «ديفيد كيركباتريك»: «الفكرة الخيالية بانتقال السلطة إلى الأمير حمزة (32 سنة) تستحوذ على مخيّلة التحرّك المعارض الناشئ، الذي يمثّل حالياً أكبر تهديد للأردن منذ عهود». ويتوقع كيركباتريك أن ناشطي الحراك «سيحملون صور حمزة وأمراء آخرين خلال التظاهرات المقبلة، كإشارة إلى المطالبة بتغيير داخل العائلة المالكة». ولا يتعين أن نعزل هذا الأمر عن الدلالات التي يستبطنها التصريحُ الذي أدلى به، في اليوم الثاني للهبّة، المتحدثُ باسم الخارجية الأميركية مارك تونر: «الشعب الأردني متعطش، كغيره من دول الربيع العربي، للتغيير». وفي سياق تحليل تحولات الموقف الأميركي، الداعم والراعي تاريخياً للنظام الملكي الهاشمي، خرج إلى العلن همسُ مجالس تحدثت عن اشتراطات أميركية وخليجية على الأردن لقبوله باستقبال الحكومة السورية على أراضيه، أو على منطقة متاخمة للحدود الأردنية-السورية، أي في درعا، إضافة إلى الاستعداد للتوغل عسكرياً في الأراضي السورية. وفي مقابل الموافقة الأردنية، سيُجرى تأمين الدعم المالي الفوري للأردن بما يمكنه من الخروج من مأزقه الاقتصادي المستفحل، وعدم الرضوخ لإملاءات صندوق النقد الدولي. لكنّ الرواية المقربة من مراكز القرار السياسي والأمني الأردني أبدت تحفظاتها على هذه المطالب التي يكتنفها قدرٌ عال من المخاطرة غير المحمودة العواقب، في حين تسربت أنباء غير مؤكدة تشترط أن يكون الفعل الأردني لاحقاً للدفع المالي واستحقاقاً له، ما أغضب الحلفاء، فدفعوا الأردن إلى مواجهة الاحتجاجات، و «تقليع أشواكه بيديه»! بعض المحللين يذهب إلى أن «حرد الحلفاء» الذي صبّ وقوداً على نار الشارع (وهنا ينتعش عقل المؤامرة) كان بمثابة «فركة أُذن» للملك عبدالله الثاني، والتلويح بحشره أكثر في زوايا أشد ضيقاً تشعره بالاختناق، ما دفع ناصحين للنظام، من داخله، بأن ينوّع من قائمة الحلفاء في المرحلة المقبلة، إذا كان قادراً، ومسموحاً له بذلك! أما كلمة السر «الاستراتيجية» للخروج من الأزمة وحماية النظام وترميم رمزيته ومعالجة الخدوش التي أصابت شرعيته، فتكمن في «الاعتصام بالشعب». فهل يفعلها الملك، ويقلب الطاولة، ويُحدث الانعطافة التاريخية، ويكون سرّ أبيه؟ * كاتب وصحافي أردني
| |
|