يلفت المراقب ما يردده بعض المسؤولين اللبنانيين في السنوات الاخيرة وخاصة منذ اندلاع احداث سوريا من ان لبنان يتأثر ولا يؤثر في محيطه العربي والاسلامي. يشكل هذا القول رضوخاً لواقع لطالما رفضه اللبنانيون الذين تربوا على فكرة "لبنان المميز وذي التأثير في محيطه"، انه واقع الحرب اللبنانية التي انفجرت في العام 1975 حرباً للآخرين على ارض لبنان – رحم الله استاذنا الكبير غسان تويني، صاحب كتاب "حرب من اجل الآخرين" - وما لبثت ان تحولت اقتتالاً لبنانياً - لبنانياً حول موضوع تقاسم السلطة.
سمى البعض ذلك مشروع اصلاح ولكن المفاوضات التي واكبت اقرار اتفاق الطائف والبازارات التي اجريت بين ممثلي الطوائف بينت ان القوى السياسية اللبنانية التي انخرطت في الحرب فعلت ذلك اما للدفاع عن السلطة واما لانتزاع قدر اكبر منها. وهذا ما حصل. لكن هذا الامر مشروع، خاصة اذا كان هناك غبن في الحصص وعدم عدالة في توزيع الموارد.
الامر الذي نستغربه فقط هو انصياع غالبية النخب السياسية الفاعلة منذ التسعينات لارادات خارجية، اقليمية ودولية. هذا الانصياع هو الذي حوّل لبنان من بلد مميز الى بلدٍ تابع. وقد صح فيه القول اليوم انه يتأثر ولا يؤثّر.
ويؤسفنا القول ان لبنان اليوم – بالرغم من مختلف حروب السيادة والتحرير- ما زال اقل سيادة واقل عدالة في التوزيع لا بل ان سيادته قد تضاءلت وتقلصت الى حدود الاحتفالات الرمزية مثل عيد الاستقلال. وإذ يقوم كبار المسوؤلين بجولات خارجية وبطرح رؤية مبدئية حول رسالة لبنان في المحافل الدولية، فإن حياة لبنان اليوم تدل على انه يئن تحت وطأة الاستتباع والضغوط الخارجية. ولم تفلح لليوم جهود اقتناص فرصة لإنتزاع هامش اوسع للحرية للدولة اللبنانية المأزومة.
اثارت في الماضي عبارة لبنان المميز غضب بعض اللبنانيين ذوي الانتماءات القومية على اختلافها وحقد بعض الانظمة المجاورة الحالمة بالهيمنة باسم القومية.
قيل مثلاً ان اللبنانيين يتعالون على الاشقاء العرب، معاذ الله. قيل ايضاً ان اللبنانيين انعزاليون ومستكبرون، لا سمح الله.
لكن لبنان كان فعلاً مختلفاً، بمسيحييه ومسلميه، اذ انه كان دائماً قائماً على عقيدة التعايش والانفتاح على الآخر. بكلام آخر كان لبنان ليبرالياً. كان لفترة طويلة البلد العربي الوحيد الذي يعيش فيه مواطنون من اديان وطوائف مختلفة ويتشاركون في الحياة العامة وفي غالبية المؤسسات. كان ولا يزال البلد العربي الوحيد الذي يسمح القانون فيه بتأسيس جمعيات مدنية من دون اذن مسبق. كان في الغالب البلد الوحيد الذي نبتت فيه احزاب وتيارات سياسية من مختلف الاتجاهات العقائدية والمشارب ولم يسُق مناضليها الى السجون.
كان البلد الوحيد حيث ينتقد المواطن المسوؤلين من دون خوف من القمع. كان الانقتاح على الثقافات والحضارات جزءاً من عقيدته. نعم كان كل ذلك. وكان يحلم بالتأثير في محيطه. اقله كان بعض المفكرين والباحثين والناشطين والادباء والفنانين والشباب العرب الذين تعودوا زيارته والاقامة فيه، يعتبرونه قدوة يحلمون بالاقتداء بها في بلدانهم.
وربما وجب علينا الاقرار بأن حلم لبنان بالتأثير في محيطه هو حلم تشكل تدريجياً بازاء التطور الاندماجي الذي شهده من العشرينات الى الستينات من القرن الماضي.
ففي الاساس كانت فكرة لبنان الملجأ هي السائدة في عقيدة اهل النظام. والملجأ هنا يشير الى وجود اقليات دينية، مسيحية واسلامية ويهودية واثنية (ارمن، اكراد،...) في ربوعه وتمتعها جميعاً بالحرية.
في اواخر الثلاثينات واول الاربعينات تشكلت في لبنان طبقة مختلطة طائفياً في اوساط البورجوازية التجارية المدينية، وقد اخذت العقيدة الوطنية في اتجاه فكرة لبنان همزة الوصل. وفي ذلك اشارة الى الموقع الوسطي الذي احتله لبنان بل احتلته بيروت بداية في مجال التبادل التجاري بين الشرق والغرب وبصورة خاصة بين العالمين العربي والغربي.
في مرحلة ثالثة بدأت فعلياً في اواخر التسعينات تحولت عقيدة النظام في لبنان الى فكرة لبنان الرسالة. وقد جسدت هذه الفكرة كلمة الحبر الأعظم مار يوحنا بولس الثاني خلال زيارته للبنان في اواخر التسعينات من القرن الماضي. ورافق هذه الفكرة بروز ما يسمى صدام الحضارات فكأنما لبنان كان صيغة للرد على هذا الصدام بتأكيد امكان العيش المشترك والحوار بين الحضارات والثقافات والاديان. لكن "لبنان الرسالة" كان نوعاً من التحدي وربما اثار حفيظة البعض الحالم بالهيمنة باسم القوميات على اختلافها. فكأنما لمس لبنان الخط الاحمر فتكهرب وسقط وتخبط وما زال بين الحياة والموت. فقد اشتد الطوق على لبنان تدريجاً وما لبث البلد ان إنبسط ملعباً امام كبار وصغار، وبات صدى كلام كبار المسوؤلين اللبنانيين في المحافل الدولية عن لبنان الرسالة ولبنان المختبر للعيش المشترك وحوار الاديان، يصطدم بجدار التطرف والحقد والضغينة. فحاولوا معاقبته على الحلم هذا وترويضه من كل حدب وصوب واستتباعه.
ولسوء الحظ تقاطعت النزاعات الخارجية للضغط على لبنان مع تفاقم مسألة المشاركة في السلطة وخلاف النخب الطائفية على الحصص وتزاحمها عليها. فعقد معظمها تحالفات خارجية لتمتين مواقعهم الداخلية فبات لبنان يتأثر بدل ان يؤثر، يتأثر ولا يؤثر. وبات مألوفاً عند الحديث عن الشخصيات السياسية ان يقال فلان يخص الأميركيين وفلان الفرنسيين وفلان السعوديين وفلان الايرانيين والف فلان وفلان كان وما زال يخص السوريين.
هل يمكن لبنان ان ينتفض من هذه الحال وان يعود الى حمل رسالته؟ هل يمكن للبنان ان يعود يؤثر وان يتأثر بشكل محدود بما يدور من حوله؟ وكيف؟
نسارع الى الاجابة بالنعم على السؤال الاول لأن عزيمة اللبنانيين لم تهبط بالرغم من كل الضغوط ومحاولات الترهيب. فاحتلال لبنان كما الهيمنة عليه كلفت جيرانه غالياً وقد تكلفهم بعد اكثر واكثر. فقد اعتاد اللبنانيون على العصيان على الهيمنة وعلى مقاومة الاحتلال. وفي لحظات وان معدودات، التقى اللبنانيون في التأكيد على حلم الاستقلال والسيادة. نقول ربما بدقة اكبر: التقى اللبنانيون موضوعياً. اي انهم التقوا من دون ان يتكاتفوا. فكل فصيل منهم تمرد وعصى وقاوم وضحى في مواجهة الخارج، لكن لسوء الحظ لم يفعلوا ذلك معاً ولا في مواجهة الخارج نفسه وليس في وقت واحد. وتلك كانت دائماً المشكلة. فبدل أن يوحدهم العصيان قسمهم وزاد من التباعد في ما بينهم في كل مرة. واذ نقرأ في العلاقات الدولية مآزق عدة وبين الشعوب تباعداً وعودة للنزاعات المتطرفة والتعصب، نرى ان لبنان بما يختزنه تاريخه الحديث من عشق للحرية انما يمكن ان ينهض وان يعود الى تعزيز قيمته المضافة هذه، "عشق الحرية". وللمناسبة لم يكن اللبنانيون لينتفضوا ويقاوموا لو لم يكن مناخ لبنان مناخ حرية. لكن الحرية هذه لا يجوز ان تبقى شعاراً فضفاضاً بل واجب اللبنانيين اليوم بلورة كل اوجه الحرية من عامة وشخصية وقوننتها جميعها واحترامها وتقديسها. وفي هذا السياق يمكن لبنان ان يبلور نموذجاً ناجحاً – وهو لم يكن كذلك حتى الآن – للديموقراطية التوافقية التي تفتح تلقائياً الباب نحو المزيد من الوحدة الوطنية والمزيد من التعلق بالحرية والانفتاح على الآخر. وإن هي نجحت اخذتنا تلقائياً الى باب الخروج منها الى الديموقراطية التنافسية المطلقة - اي من غير حصص. المثابرة في تعميق تجربة الحرية هي اذاً السبيل الوحيد للبنان ليعود الى رسالته.
كيف يمكن لبنان ان يعود مؤثراً؟
بعض الفضائل هي السبيل الى تصحيح نظرة لبنان الى نفسه وتقويم مساره في علاقاته الخارجية. اول هذه الفضائل الانسجام مع الذات اي التقيد بخيارات استقلالية فعلاً في معرض النضال للاستقلال والسيادة وليس الانتقال من ورطة خارجية الى ورطة اكبر.
ثاني هذه الفضائل: المناداة للآخرين بما نطالب به لنفسنا وهو ما يترجم باحترام حرية الآخر ورأيه، وبالابتعاد عن التخوين والاقصاء في علاقاتنا الوطنية الداخلية.
الفضيلة الثالثة تكمن في ان نعتبر جميعاً كمواطنين ان الشأن العام شأن كل منا وبالتالي الاستعداد للتضحية من اجل الشأن العام المشترك لأن فيه مصلحة الجميع. يمكن أن نفكر عملاً بالمنطق القائل... لو ان الجميع يفكر مثلنا ماذا يحصل؟
من فضائل النخبة السياسية ان تعمل كأنما ستقدم حساباً للناس عن نتائج اعمالها وخياراتها ومواقفها وان تتحمل تالياً مسؤولية مادية ومعنوية في آن واحد. من الطبيعي في مواكبة هذا الحسّ بالمسؤولية ان يتحلى المواطن اللبناني بحد أدنى من الاستقلالية في التفكير ومن الحسّ النقدي والاتجاه الى التقويم والمحاسبة.
كل هذه الفضائل موجودة لدى اللبنانيين لكنها تراجعت كثيراً من دائرة الضوء لأن لبنان لم يخرج بعد من الحرب. فصحيح ان العمليات العسكرية توقفت في العام 1990 لكن قيم الحرب ما زالت سائدة وبعض نخب الحرب غيّر ثيابه لكنه لم يغير منطقه وعاداته. والمجتمع المدني اللبناني تأثر كثيراً هو الآخر بمنطق الحرب وقيمها.
نحن على أبواب معركة اصلاحية ضرورية لنهوض لبنان من المحنة المستمرة بأوجه متعددة منذ عقود ونهوضه سيجعله من جديد قدوة ومنارة، من جهة لأن ليس له معنى ولا طعم من دون اعتناق الحرية مذهباً وعقيدة، ومن جهة أخرى لأن غالبية الدول العربية التي شهدت تغييراً في انظمتها او هي على وشك ذلك انما تعيش معركة ثقافية على مستوى مجتمعاتها المدنية بين مشروع الديموقراطية المبنية على العدد الاكبر ومشروع الديموقراطية المبنية على احترام الحريات وحقوق الانسان. والى حين يحسم المجتمع المدني امره في كل دولة فان هذه الدول قد اتجهت الى استبدال انظمة سلطوية بأخرى تنتمي الى المنطق نفسه، منطق فرض نمط عيش على الناس باسم الغلبة الحسابية على السلطة. وينسى هؤلاء ان هناك قيماً ملازمة للكيان الوطني يتفكك ان هي رحلت عنه او غيبت، وانها تبقى اقوى من كل الانظمة.
لبنان سيعود يوم ينهض، قدوة وملاذاً وجسراَ ومنارةً بقلب منفتح ويد ممدودة الى امثال اللبنانيين الكثر في كل الدول العربية. في تلك الحالة سيكون يوم الاستقلال الحقيقي يوم نحتفل به ونعتز ولا نعود نردد قول الشاعر "عيدٌ بأية حال عدت يا عيد".
كان لا بد لنا من هذه الجولة السريعة، وإن المؤلمة، على بعض مفاصل الأزمة وبعض مخارج الحل لمناسبة حلول الثاني والعشرين من تشرين الثاني وان شاء الله يعود هذا اليوم قريباً ونكون قد خطونا في اتجاه الخروج من الأزمة نحو الضوء، نحو الاستقلال الحقيقي، نحو الحرية لكل مواطن ولكل مواطنة ولكل انسان يعيش في لبنان. الحرية هي بداية احترام كرامة الانسان كل انسان. يجب ان يصل نظامنا القانوني الى مرتبة حقوقية تكرس حقوق الانسان كل انسان. هذا هو حلمنا.
مديرة معهد العلوم السياسية في الجامعة اليسوعية
|