 | | التاريخ: تشرين الثاني ٢٢, ٢٠١٢ | المصدر: جريدة الحياة |  | التراث الاستقلالي وحكومة الائتلاف الوطني في لبنان - رغيد الصلح |
يحتفل لبنان اليوم بالذكرى التاسعة والستين للاستقلال في ظروف تحض اللبنانيين على العودة إلى هذا الحدث التاريخي وإلى دروسه وعبره. كان لبنان في طليعة دول المنطقة التي حققت الاستقلال في مطلع الأربعينات. وبين هذه الدول كان لبنان من القلة التي حققت استقلالاً ناجزاً من دون معاهدات تنتقص من حريته وسيادته، كما حصل مع دول عربية أخرى أكبر منه حجماً وسبقته في التكون والنشوء. وكانت لاستقلال لبنان كلفة عالية دفعها خلال ربع قرن من الكفاح التحرري جنباً إلى جنب مع الدول العربية التي كانت تعاني من الاستعمار والحماية الأجنبية. ولكن هذه الكلفة بقيت محدودة وطفيفة بالمقارنة مع ما تكبده ويتكبده شعب فلسطين من عذاب وتضحيات، كما نشهد اليوم في غزة من أجل بلوغ الهدف الاستقلالي. الكلفة المحدودة التي دفعها اللبنانيون من أجل الاستقلال لم يكن معناها أن الإنجاز الاستقلالي كان سهلاً وميسراً. اصطدم الطلب اللبناني على الاستقلال بمعتقدات صارمة ومتناقضة اعتنقها اللبنانيون وباعدت بينهم وفرقتهم إلى مؤيد ومناهض للهدف الاستقلالي. ولكنهم تمكنوا من التغلب على هذه الفوارق وتعلموا نهج تبادل التنازلات لكي يتوصلوا إلى الاتفاق على عقد ديموقراطي وطني والالتزام بمضمونه. هذا النهج الذي تدرج اللبنانيون على طريقه لسنوات أتى، في نهاية المطاف، بالثمار الاستقلالية. أين نحن اليوم من هذا النهج؟ نسير اليوم في طريق معاكس. بدلاً من أن يقترب أهل السياسة في لبنان من بعضهم بعضاً فانهم يشتطون في التباعد والافتراق. وحصيلة هذا الشطط المعطل للحياة السياسية أن جلسة الحوار الوطني التي كان مقدراً لها أن تنعقد في نهاية هذا الشهر، تبدو بعيدة المنال، وأن الحوار حول مسألة الدفاع الوطني يكاد يتحول إلى مهمة مستحيلة. هل هناك من مسوغ لتعطل لغة الحوار؟ هل نعيش في منطقة سلام تترك للبنانيين أن يتدبروا شؤون بلدهم بحسب الحاجات والتوقيت والظروف المحلية؟ هل نرفل في ديموقراطية مستقرة وزاهرة تبيح لنا سحب المناقشات والمشاحنات من طاولة الرئاسة وجرها إلى الحلبة البرلمانية حيث مجالها الطبيعي؟ هل يعم الأمن والهدوء مدن لبنان وقراه؟ هل تخيم أجواء التعاطف والتضامن والتنافس السلمي والمهذب على أجواء اللبنانيين؟ هل تنتظم العلاقة بين جماعاتهم المختلفة وطوائفهم المتنوعة وأحزابهم وحركاتهم المتعددة حسب أصول وقواعد سليمة؟ لا يحتاج المرء أن يكون ضليعاً في علم السياسة أو خبيراً في الشؤون العربية واللبنانية حتى يجيب سلباً على كل من هذه الأسئلة. إن لبنان مزروع في منطقة لم تعرف طعم السلام منذ منتصف الأربعينات، أي منذ أن حصل على الاستقلال. ففي غزة تدور جولة جديدة من الحرب الدائمة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. بقيت هذه الحرب - حتى كتابة هذه السطور- في حيز التقاتل الصاروخي. التوقعات تقول بأنها قد تتحول بسرعة إلى حرب برية. عندئذ تبرز احتمالات كثيرة أقلها تحركات عسكرية على حدود إسرائيل الشمالية. تضاف إلى ذلك مطالبات قد تتعلق بالموقف اللبناني الملموس تجاه الأوضاع الفلسطينية. قدم عدنان منصور وزير خارجية لبنان مقترحات تستحق التنويه إلى مؤتمر وزراء الخارجية العرب. ولكن قد يسأل البعض بعد انقضاء وقت قصير: ما هو مصير هذه المقترحات وماذا يفعل لبنان وأي دور له في متابعة تنفيذها؟ أي سياسة دفاعية يعتمدها لبنان بحيث تمكنه من تقديم عون فعلي وملموس إلى الفلسطينيين؟ في غياب السياسة الدفاعية المناسبة لن يستطيع لبنان تقديم إجابات على هذه الأسئلة. حرب غزة، مهما طالت واشتدت، لا تلهي السوريين والعرب والمجتمع الدولي عن الأحداث الدامية في سورية. هذه الأحداث باقية معنا لوقت غير قصير. يقولون إن المعدل العالمي لأعمار الحروب الأهلية يتراوح بين أربع وسبع سنوات. من الآن وحتى تنتهي الحرب في سورية، تواصل الحكومة الالتزام بسياسة «النأي بالنفس» عن الأحداث السورية. هذه السياسة هي موضع استحسان وتأييد دولي واسع، ولكنها سياسة رسمية ومعلنة فحسب. أما الواقع العملي فيحتاج إلى تفحص. البعض يقول إن لبنان أصبح مقراً وممراً للأسلحة والمتطوعين إلى سورية الذين ينضمون إلى طرفي الصراع. السلطات الرسمية لا تؤكد هذه الأنباء ولكنها لا تدحضها بصوت عال. إذا استمر هذا الواقع بعض الوقت وإذا هدد التدخل اللبناني «الأهلي» موازين القوى السورية فكيف ترد القوى المتضررة من التدخل؟ وكيف للبنان أن يحتوي ردود الفعل هذه وأن يزيل مبرراتها وأسبابها؟ كيف يحول دون توسيع مساحة الصراع الدامي السوري لكي لا يشمل الأراضي اللبنانية؟ ما ينبغي أن نضيفه هنا إلى المشهد العربي والأوسطي وإلى تفاعلاته لبنانياً، أن الموقف اللبناني تجاه الأشقاء وتجاه القضايا العربية لا تحكمه الاعتبارات المبدئية وعلاقات الإخوة والتضامن العربي والإنساني فحسب، وإنما أيضاً الاعتبارات المصلحية. هناك من يلفت نظرنا، وبإلحاح شديد، إلى أن حرب غزة لا ترتدي الطابع الأمني البحت، وإنما هي أيضاً حرب اقتصادية، وإن لها صلة مباشرة برغبة إسرائيل في الاستحواذ على القسم الأكبر من الثروات المكتشفة من الغاز والنفط في شرق المتوسط. إنها حرب استباقية ضد قيام جبهة نفطية مشرقية تضم لبنان وسورية وغزة ومعها مصر، وربما في المستقبل قبرص واليونان. هذه الحرب الاستباقية ضد غزة قد تتكرر ضد لبنان إذا اتخذ اللبنانيون التدابير المناسبة للحفاظ على حقوقهم المشروعة في ثروات بلدهم الطبيعية من الغاز والنفط. هذا ما حذر منه وزير البنية التحتية الإسرائيلية عوزي لاندو في مطلع الصيف الفائت. هذا ما هدد به آرييل شارون لبنان عام 2002 عندما حاول اللبنانيون سحب حصتهم من مياه الوزاني والحاصباني. هذه التهديدات والتحديات تأتي في ظروف لبنانية متدهورة. الأوضاع الأمنية، كما شهدنا في أحداث صيدا وطرابلس، تتفاقم باستمرار. هذه الأوضاع المتفاقمة تحصد ضحايا كثراً إضافة إلى إضرارها بالمرافق الاقتصادية الكثيرة وبموارد الدولة وطاقاتها، ومن بينها أيضاً الحلول المقترحة والمتوقعة للمشاكل الاجتماعية التي تعاني منها الطبقات المتوسطة والفقيرة مثل إقرار سلسلة الرتب والرواتب. تتغذى هذه الأوضاع من حرب استنزاف يخوضها طرفا الصراع السياسي الرئيسيان في لبنان. في هذه الحرب يتصارع الفريقان على «هندسة» أحادية للانتخابات النيابية المقبلة بما يضمن لهذا الطرف أو ذاك أكثرية كبيرة في البرلمان المقبل. في هذا السياق تطالب كل من الكتلتين الرئيسيتين بحكومة تسهل ولادة الأكثرية الموالية لها. هذه المطالبة تضع لبنان أمام مصير مجهول. المطلب الأصح هو السعي إلى تشكيل حكومة ائتلاف وطني. بفضل روحية الائتلاف هذه تمكن لبنان من الوصول إلى الاستقلال الناجز عام 1943. ولكن الطريق إلى مثل هذه الحكومة يمر عبر بعبدا وعبر طاولة حوارها. السير على هذه الطريق تعترضه حتى الآن عقبات وصعوبات كثيرة. حتى تتذلل هذه الصعوبات والعقبات، سوف يبقى لبنان مكشوفاً أمام الضغوط الإقليمية والانفجارات المحلية. * كاتب لبناني
| |
|