التاريخ: شباط ١٧, ٢٠١١
المصدر: جريدة المستقبل الللبنانية
 
نظرة "الخارج" إلى "الربيع العربي" - ناصيف حتي

تبرز بعض الاشكاليات والمفارقات في نظرة "الخارج" الغربي بشكل خاص، سواء كان ذلك في السلطات أو في دوائر صنع القرار والرأي والاعلام، في ما يتعلق بـ "الربيع العربي":


أولاً، تأكيد البعض في مداخلات "أكاديمية" مطولة تستند الى قراءات تاريخية انتقائية والى منطق ثقافي استعلائي، كما تبرز من خلال تصريحات تعبر عن تخوف وقلق كبيرين في ما يتعلق بمصالح هذه الأطراف الغربية، مما جرى ويجري جنوب وشرق المتوسط، السؤال الذي يطرح بالحاح بشكل مباشر او بالتلميح ان المجتمعات العربية، وتحديداً بسبب "الاسلام"، لا يمكن ان تقبل الديموقراطية وكأنما الديموقراطية نموذج واحد مطلق يجري اسقاطه في لحظة واحدة خارج اي اطار مجتمعي يحكم الديموقراطية كمسار وكعملية معقدة ممكنة دائما، ولكنها ليست بالسهلة، وصعوبتها او عوائقها تتعلق بظروف موضوعية من سياسية وغيرها وليس بالطبع بالانتماء الى فضاء ثقافي ديني معين.


الخوف والتخويف دائما بخسارة الاستقرار، الذي كانت توفره النظم الحاكمة التي سقطت او نظم أخرى تحاول الانفتاح وتغيير المسار، يعكس من جهة انانية سياسية حادة ومعها بالطبع نوعاً من قصر النظر السياسي من جهة أخرى، فكأنما المطلوب القول ان استقراركم المفروض على حساب تنمية مجتمعاتكم واطلاق دينامياتها وتطورها ضروري للحفاظ على "ازدهاري ومصالحي وطمأنتي". وكأنما عبر المتوسط لا توجد شعوب ومجتمعات من حقها التقدم، بل ان هناك دولاً يجب ان تكون بمثابة مخافر شرطة تحمي مصالح دول شمال المتوسط وغربه، ثم كأنما البديل عن الاستقرار هو الفوضى والدمار، وكأنما على العرب ان يختاروا بين نموذجين من هذا المنظور بالذات: بين بن علي وبن لادن، فالاستقرار المفروض واللاشرعي بديله في هذه الحالة الارهاب والفوضى.


انها نظرة اختزالية تبسيطية تلامس في حالات كثيرة مفهوماً عنصرياً في النظرة الى الآخر، فالتخويف من تحرر حركات الاسلام السياسي ودخولها المعترك السياسي تخويف بعيد عن الحقيقة التي يحاول ان يصورها البعض وكأنها قاتمة، فأياً كان الموقف من هذه الأطراف، التي لها الحق مثل أي طرف آخر في العمل السياسي السلمي والديموقراطي مساواةً للأطراف السياسية الأخرى، وعلى أساس عقد اجتماعي سياسي يشارك فيه ويخترمه الجميع.. تخوف في غير محله. فعندما يفتح الفضاء السياسي ستضطر كل هذه الأطراف، ومنها حركات الاسلام السياسي ان تبتعد عن الخطاب الايديولوجي الجاذب والصالح للتعبئة في مجتمعات تكون مغلقة سياسياً وكبديل وحيد في هذا الاغلاق المفروض للتعبير عن غضب مشروع وعن قهر قائم.. ستضطر للتحول الى السياسة بمفهومها المدني والبحث في مشكلات وقضايا المجتمع التي تنتمي اليه. وستضطر هذه الاطراف، مثلما سبقتها حركات عقائدية في العالم العربي وفي الاقاليم الدولية الأخرى، الى مواجهة التحدي مع الواقع المعاش والتعرض للتحول والمراجعة على الأصعدة الفكرية والسياسية والتنظيمية في فضاء سياسي مفتوح وفي دولة قانون يجري بناؤها وتقوم على الفصل بين المؤسسات وعلى المراقبة والمساءلة القانونية والشعبية. ومن نافل القول التذكير في هذا المجال بأن الذين يمارسون الهلع ضد حركات الاسلام السياسي التي تتطلع للعمل السياسي بعد مرحلة من الاقصاء كانوا حلفاء الحركات الاسلاموية الراديكالية وبعض هذه الحركات شكلت البيئة التي انطلقت منها حركات القطيعة مع الآخر وحركات الارهاب.


ثانياً، بعض نظرة هذا "الخارج" يعتبر ان الأمور صارت طبيعية في العالم العربي مع ثورة الشباب التي حملت عنواني الكرامة والخبز وبالتالي فان قضية فلسطين لم تعد موجودة او مؤثرة في هذه المجتمعات وانها كانت بمثابة "مخدر" تستعملها السلطات لتحويل الغضب الشعبي الى الخارج ولتنفيس هذا الغضب. وهذه ايضا مغالطة ثانية تدل على عدم فهم دقيق للمجتمعات العربية وهي تعبر عن قراءة احادية للمجتمعات العربية، فانتفاضة الكرامة والخبز جاءت لتعبر عن حالة الغضب في هذه المجتمعات ولكنها لا تلغي المشروعيات العربية المنغرسة في منظومة قيم وثقافة وتراث هذه المجتمعات وفي التضامن المجتمعي العابر للدول العربية، والذي يظهر كل يوم في مواقف وسلوكيات الأفراد والمجتمعات تجاه قضايا تخص دولاً عربية غير دولهم. ولكن تبقى قوية ومحركة في ظل مفهوم المتحد العربي الذي يسقط الحواجز بين الدول في ما يتعلق بالاهتمامات والهموم. ولذلك تبقى فلسطين ويبقى التدخل الأجنبي في أي مكان في الارض العربية وتبقى قضايا التحرير موجودة وقائمة وتحتل حيزاً اساسياً عند اهل انتفاضات الكرامة والخبز. وهذا المنطق حول احادية الاهتمام يجد من يتبناه ولو من مواقع مضادة احيانا في العالم العربي من منظور ان التحرر يعرف التحرير عند اصحاب العناوين السياسية الكبرى خاصة في الأوساط الرسمية، في حين ان التحرر في حقيقة الأمر يدعم منطق التحرير.


ثالثاً، من المفارقات المثيرة جداً للاهتمام ان العالم العربي الذي لم تكن اوضاعه على صعيدي الكرامة والخبز افضل في عهد الرئيس الاميركي جورج بوش لم يتجاوب مع خطابه ودعواته الخلاصية الحاملة لوصفة الديموقراطية السحرية وان هذا الامر جاء في مرحلة ما بعد البوشية وفي عودة الولايات المتحدة الى سياسة واقعية، البعض في واشنطن يسميها الواقعية الجديدة التي تبقي عناوين الدمقرطة من دون ان تجعلها خبزها اليومي وعنوان خطابها الموجه نحو الخارج الرسمي والشعبي. التغيير كما قال الكثيرون دائماً يبدأ من الداخل وليس تجاوباً مع الخارج وبالشروط الموضوعية لذلك الداخل، ويبقى على ذلك الخارج ليس اعطاء الدروس وتقديم النماذج الجاهزة من جهة ولا تجاهل ولا محاربة ارادة الشعوب ومزاجها من جهة اخرى بل المطلوب دائما المواكبة ومد الجسور على كافة المستويات مع هذه المجتمعات النابضة بالحياة والتي تريد صنع مستقبلها بأيديها.
اشكاليات ومفارقات تدل مرة أخرى على الحاجة الكبيرة والضرورية لفهم الآخر وفهم تضاريسه المجتمعية دون نشاطات تاريخية انتقائية نظرية أو عقائدية تعكس جهلاً وتجاهلاً من جهة واستعلاء وعمى سياسي من جهة أخرى.